
تتجاوز تداعيات الأحداث في سوريا، ببعديها الداخلي والإسرائيلي، حدودها إلى الساحة الإقليمية، وفي مقدمتها لبنان، بحكم الجغرافيا المتداخلة والتركيبة السكانية التي تجعله أكثر حساسية لما يحيط به إقليميًا.
فما قد تتمكّن دول أخرى من استيعابه، قد يمثل بالنسبة إلى لبنان تهديدًا وجوديًا، نظرًا إلى محدودية إمكاناته وضيق مساحته وقلة عدد سكانه، ما يزيد من وطأة المتغيرات عليه مقارنة بغيره.
ومن بين الدروس اللبنانية المستخلصة من التحولات السورية المتسارعة، أن الاعتقاد بأن لبنان كان يمكن أن يتجنّب الحرب لولا فتح جبهة الإسناد، لم يعد مبرراً بعد الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة ضد سوريا، مع تأكيد جملة من المؤشرات التي تؤكد أن استهداف حزب الله كان مسألة وقت لا أكثر، خصوصاً بعد التحولات التي أحدثها «طوفان الأقصى» في المفاهيم الأمنية الإسرائيلية.
لو حصل التغيّر في سوريا قبل 15 عاماً لكانت تداعياته المباشرة على لبنان مغايرة
ومن هذه القرائن الاستعدادات الاستخباراتية والعملياتية التي أعدّها العدو وتكشفت بعض جوانبها خلال الحرب، فضلاً عن أن مواجهة حزب الله كانت أولوية يتفق عليها القادة السياسيون والعسكريون في كيان العدو. وإذا كانت حرب الإسناد اتُخذت ذريعةً للحرب على لبنان، فإن النظام السوري السابق لم يفتح جبهة الجولان نصرة لغزة.
كما إن النظام الجديد لم يكتفِ بعدم فتح جبهة الجولان، بل سعى إلى قطع طرق الإمداد عن المقاومة في لبنان لمحاصرتها عسكريًا وماليًا ولوجستيًا، ووجه تطمينات إلى إسرائيل… ومع ذلك، بادر العدو إلى تدمير قدرات الدولة السورية، انطلاقًا من قاعدة إسرائيلية، عبّر عنها وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر، بقوله: «عندما تتعامل مع أنظمة في منطقتنا، يجب أن تفكر في النية والقدرة.
النية قد تتغير، وقد تكون مخطئًا في تقييمها، ولكن القدرة هي قدرة. لذا، احرص على ألا يكون للعدو قدرة على إيذائك، ثم يمكنك الحديث عن الحلول الديبلوماسية» (29/4/2025). ولا يخفى أن إسرائيل وجدت في المتغيرات التي شهدتها سوريا فرصة لتحقيق هذا الطموح وتحويلها إلى دولة ضعيفة غير قادرة على تشكيل تهديد مستقبلي لها، ثم فرض مسارات سياسية وديبلوماسية عليها تشكل مدخلاً لتحقيق الأهداف والمطامع الإسرائيلية.
ومن الواضح أن هذه الاعتبارات تنطبق على المقاومة في لبنان في ما يتعلق بإزالة قدراتها كتهديد وعائق أمام أطماع إسرائيل في لبنان ولإضعافه إلى المستوى الذي يسمح لها بإطباق هيمنتها عليه بالكامل.
ولا تقتصر الأطماع الإسرائيلية في سوريا ولبنان على ما سبق، بل تشمل أيضًا احتلال أجزاء واسعة منهما. وليست هذه الأطماع مجرد تقديرات، بل حقيقة تاريخية وأيديولوجية، تزخر بها مذكرات القادة والطروحات الصهيونية ومساعيها الفعلية.
مع ذلك، هناك دروس أثبتت صحة رؤية قيادة المقاومة عندما اعتبرت أن سقوط سوريا سيؤدي إلى تطويق المقاومة في لبنان وفلسطين، على أقل تقدير. ولذلك نلاحظ أن من أهم العوامل التي يغفل عنها البعض في إنتاج الواقع السياسي الآن في لبنان والمخاطر المفتوح عليها، تعود بالدرجة الأولى إلى التغير الذي حصل في سوريا قبل نتائج الحرب الإسرائيلية.
وحتى لو كانت الحرب جزءًا من العوامل التي أسهمت في توفير الفرصة لإسقاط النظام في سوريا، كما يقول نتنياهو، فإنه ليس سوى واحد من مجموعة عوامل رئيسية داخلية وإقليمية أخرى.
ونتيجة للحدث السوري، حُرمت المقاومة من عمق إستراتيجي في دمشق والتواصل مع عمق آخر في طهران، كان لهما الدور الرئيسي في تغيير مسار الصراع مع العدو وتوفير الأرضية لتحرير لبنان ومواجهة الحروب الإسرائيلية. ونتج منه أيضًا قطع طرق الإمداد العسكري والمالي واللوجستي المطلوبة لمواجهة الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية.
مع ذلك، ينبغي الالتفات إلى نقطة رئيسية، وهي أنّ تأخّر سقوط النظام السوري مكَّن حزب الله من بناء وتطوير قدرات هائلة تسمح له بمواجهة التهديدات الماثلة الآن، على خلاف ما لو كان هذا الأمر قد تم قبل عقد أو أكثر. أما بالنسبة إلى ما يشهده الداخل السوري من مجازر، فهو مؤشر إضافي على الحكمة التي تمتعت بها قيادة المقاومة في تشخيص المخاطر وحجمها، مع الالتفات إلى تحولات تبلورت منذ نحو عقد ونصف عقد، أسهمت أيضاً في «تطويع» بعض المخاطر أو تأجيلها حتى الآن… وإلا فإن هذا التغيّر لو حصل قبل نحو 15 عاماً، لكانت تداعياته المباشرة على لبنان مغايرة.
في الختام، يمكن القول إنه في ضوء المسار الذي اتخذته الأحداث والتطورات، تشهد الساحتان السورية واللبنانية تحولات تحمل في طياتها تغيرات جذرية وغير مسبوقة. والتفاعل المعقد بين العوامل المختلفة يشير إلى ديناميكية مستمرة ستعيد تشكيل المشهد الراهن بطرق ربما لم تتضح معالمها بعد تماماً.
مع ذلك، فإن الفهم العميق للمحددات الأساسية للمشهد السوري والإقليمي يوفر نافذة لاستخلاص العبر بما يسهم في استشراف أدق للمخاطر والتحديات، وبما يؤكد ضرورة بناء القدرات وتطويرها باعتبارها خط الدفاع الرئيسي في وجه أطماع لا تعرف حدودًا.
والوعي العميق بديناميكيات الإقليم المعقدة هو المدخل الحصري لمواجهة أكثر نجاعة في مواجهة تحديات المستقبل.