كان اليوم الثاني من عدوان تموز. دخل الحاج محمد إلى قاعة الأخبار حيث مبنى قناة «المنار» ما قبل تدميره الذي تم في تلك الليلة. كان يشغل منصب مدير الأخبار والبرامج السياسية في القناة. سألني أمام جمع من الزملاء إن كنت أوافق على الذهاب إلى مشارف الضاحية، وتغطية القصف مباشرة على الهواء. تسمّر الجميع وبعضهم فتح فمه تعجباً، بل ربما استنكاراً. كيف يرسل فتاة للقيام بهذه المهمة؟! وبحماسة الآتية إلى عالم المراسلة الميدانية حديثاً، وافقت مباشرة. لم أتردّد ولم أُبلغ والديّ حتى.
انتهى المشهد الأول من القصة. الحزم والجدية وسرعة توزيع المهمات وفقاً للموارد المتاحة، بعدما ذهب كل المراسلين الشباب إلى الجنوب، وأصيب من بقي بتسمّم بالغازات نتيجة قصف جسر الصفير، فبح صوته وبات عاجزاً عن التغطية المباشرة.
المشهد الثاني هو الوجه الأهم في شخصية «الحاج محمد». هكذا نناديه. الأب العطوف فائق الحنان. طلب من أحد المساعدين إحضار درع وخوذة، وذهب معي من ممرّ خلفي آمن لإيصالي إلى السيارة والانطلاق بالمهمة. مشى سريعاً واقتنص فرصة محادثة ثنائية سريعة بعيدة عن مسامع من رافقنا والفريق الذي كان بانتظاري. قال لي: «يا بنتي إذا خايفة ما تروحي وأنا ما بحرجك وبقول إنّي غيرت رأيي». تعجبت مما رأيت. كان والدي الذي يتحدث وليس مديري ومسؤولي المباشر. أجبته بعجالة: «لا أبداً مش خايفة وبدي روح». ردّ عليّ بعبارة «برافو بيضيلي وجي». وذهب إلى حيث يجب، وقبل لحظات من بدء رسالتي سمعت صوته من ميكرفون المخرج يخاطبني ويشجعني.
انتهت قصة من عشرات القصص للأستاذ والمعلم والأب، كان فيها الحاج محمد صانعاً حقيقياً لشخصيتي المهنية بكل تأكيد كما كثر غيري، يتابع أدقّ التفاصيل ويرمي بنا إلى مصارع السياسة والعلاقات التي لا يبخل بها أبداً على طامح أو ساع لنسج ما يبني له شخصية مستقلة.
كان يحرص على مناداتنا إلى المكتب في محضر كبار الزوار، وكم كانوا كثراً. محبون وباحثون عن تحليل أو معلومة. وهنا يتفنّن في صقل الشخصية ويبدأ بطرح الأسئلة التي تعطي ثقة لمراسلته أمام الضيف أو الضيوف: «كلّمتِ وليد جنبلاط؟ شو صار مع فلان الخ». كان أستاذاً في العلاقات العامة يأسر الجميع، الذين كان منه كحال الفراشة من الضوء.
مع الحاج محمد، لا تحتاج إلى النظر إلى ساعتك لتعرف الوقت بالدقة. يكفي أن ترقب برنامجه الدقيق لتحصل على الإجابة. نهاره المبكر الذي يبدأ قبل الجميع في غرفة الأخبار، فتراه بصم كل الصحف، وبعضها كنا نعلم أنّه حضر في صوغ مانشتاتها بلطف وكياسة وحضور ليلي دائم مع عدد كبير من رؤساء التحرير. إذا وجدته في قاعة الأخبار مع فريق النشرة المحلية، إذاً هي الساعة التاسعة. إذا وجدت أحدهم أدخل إلى مكتبه فطوره المتواضع «خبز محمص وصحن من اللبنة»، فهي إذاً التاسعة والنصف، وهكذا طوال محطات النهار. كان دقيقاً ومثابراً ونشيطاً بشكل إعجازي.
كثيرة هي المحطات التي لم يبدل من وفائها منصب. بقي الأستاذ والموجه من خارج المستوى الإداري المباشر لقناة «المنار» وأجمل اتصال يمكن أن يصلك من مكتبه، هو أن يدعوك إلى «لمة صغيرة بالمكتب». لمة يتفنّن في نحت المدعوين إليها لتكون مفيدة سماعاً وكلاماً وتحليلاً مهما كان الخليط متنافراً في الآراء والتوجهات السياسية، في وحدة العلاقات الإعلامية لـ «حزب الله»، كانت الدقة ذاتها والفريق الذي سرعان ما يتحول من موظف إلى عاشق لمن يفترض أنه مديره المباشر. نعم لا أنصاف حلول في العلاقة مع الحاج محمد: إما أن تحبّه وإما أن تحبه. هكذا يصبح العمل معه محطة تعلّم يومية متصاعدة بشكل مذهل.
أجمل في عدل الحاج محمد، أنّه ممّن لا يجامل في توصيف الخطأ والمحاسبة عليه، لكنه أيضاً يقدر الإنجاز، فلا يبخل في التقدير والإشادة أمام الجميع. ورغم صرامته المغلفة بضحكة تسحر الجميع، كان محبّاً للمشاكسة وللشخصيات اللانمطية لأنّه كان يعشق العمل من خارج الصندوق ولو على حافة الهاوية، يتلقى أي نقد أو ملاحظة أو حتى دعاوى قضائية بسبب تقرير إخباري أو خلاف ذلك، يتلقاها بصدره… وكنا نمازحه عندما يشكو ضاحكاً: «حاج محمد الحلاوة علينا بس يحبسوك»، وذلك في حمأة التوترات السياسية ولا سيما بعد عدوان العام ألفين وستة.
وعلى سيرة هذا العدوان، كان دوماً مبهراً بشجاعته لا يتصنعها. أذكره في المبنى السري للقناة أثناء الحرب الذي لم يتركه لحظة، مرتدياً بنطالاً رياضياً وما نسمّيه بقميص القطن مع مشاية بسيطة، يتابع كل شاردة وواردة، والعين دوماً على الهاتف الأسود. عبر هذا الهاتف، كانت تأتي اتصالات سماحة السيد وكنت مع بعض المشاكسين وفي أيام غير أيام الحرب، نترجاه أن يتركنا لنسمعه وهو يتكلم مع السيد، حتى إنّنا نكاد نفقز فرحاً كأننا نحن من نسمع صوته.
حاج محمد… لقد علمتني الكثير، وعندما تدرجت في المهمات كنت وما زلت أنهل من مدرستك القيادية. يمكن لي أن أكتب صفحات وصفحات عن ذكريات ومحطات لا أنسى أي تفصيل منها، وكيف أنسى أنك في عين الخطر ولم تبخل في توجيه أو اتصال خلال هذا العدوان. حتى حين واكبتك في روضة الحوراء في الغبيري، يوم هدّد العدو بالقصف، لم تهتز أو تسرع من جملة كنت قد قرّرت قولها.
حاج محمد، كنت على يقين بأن الشهادة نصيبك المؤجل منذ عام 2006. كنت بطلاً شجاعاً بما فعلت لإعلام المقاومة طوال سنوات، وجددت حضورك الاستشهادي مجدداً في هذا العدوان.