على الرغم من أنّ البلاد تنفّست الصعداء إلى حدّ بعيد، بعد الضربة التي نفّذها “حزب الله” ردًا على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، والتي كان واضحًا أنّها بمعزل عن الجدل الذي أثارته، فُصّلت على مقاس عدم الذهاب إلى حرب شاملة، بدليل دعوة الأمين العام للحزب الناس للعودة إلى بيوتها، فإنّ الاستحقاقات السياسية الداخلية بقيت مجمَّدة بصورة أو بأخرى، ربطًا بتطورات الجبهة الجنوبية، التي تبقى مفتوحة على كلّ الخيارات.
مع ذلك، سُجّلت عودة “نسبية” للحديث بهذه الاستحقاقات، ولا سيما الانتخابات الرئاسية مع اقتراب الذكرى السنوية للشغور في قصر بعبدا، حيث لفتت الانتباه مواقف متجدّدة للرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، كرّس من خلالها أكثر فأكثر “تموضعه” جنبًا إلى جنب “حزب الله”، ولو من بوابة الدفاع عن المواجهة التي يخوضها ضدّ إسرائيل، من دون أن يوفّر المعارضة من انتقاداته، حيث دعاها للسير بمبادرة رئيس مجلس النواب.
وإلى مواقف “البيك”، فإنّ ما تصدّر الاهتمام الداخلي في الأيام الأخيرة تمثّل في الوضع داخل “التيار الوطني الحر”، بعدما أصبح عدد النواب المفصولين، أو المستقيلين منه، إلى أربعة، ما يشكّل نواة كتلة نيابية جديدة، قد تمثّل “تحديًا” لتكتل “لبنان القوي” الذي انشقّت منه، ولو في إطار ما يسمّيه الأخير “ورشة تصحيحية”، وربما تكون قادرة على تغيير موازين القوى الداخلية، إذا ما عرفت كيف تبلور تحالفاتها وتقاطعاتها، بعيدًا عن “التيار”.
ولعلّ التسريبات الصوتية التي تمّ تناقلها في الأيام الأخيرة، خصوصًا للنائب آلان عون، وما أعقبها من سجال بين الأخير وبين “التيار”، تعطي انطباعًا عن بدء النواب باكرًا بلورة خريطة التحالفات الانتخابية، ما يطرح علامات استفهام حول “تموضعهم” المحتمل في الاستحقاق الرئاسي، وما إذا كان هؤلاء النواب مع جنبلاط في وارد ما يمكن وصفه بـ”انقلاب رئاسي”، يفتح طريق بعبدا أمام رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية مثلاً.
بالنسبة إلى مواقف النائب السابق وليد جنبلاط أولاً، يقول العارفون إنّها تندرج في خانة التكتيك السياسي الذي يعتمده “البيك” منذ عملية طوفان الأقصى، والذي يقوم على الوقوف إلى جانب كلّ من يصطفّون ضدّ إسرائيل، وذلك انسجامًا مع الثوابت التاريخية والعروبية التي يؤمن بها، بمعزل عن أيّ انعكاسات أو ترجمات على المستوى السياسي، ولو أنّ المؤيدين للحزب باتوا يصنّفون جنبلاط “حليفًا” أكثر بكثير من بعض من “ادّعوا” هذا التحالف على مرّ السنين.
بهذا المعنى، جاءت مواقف جنبلاط الأخيرة استكمالاً لما كان قد بدأه منذ أعلن تأييده لفتح جبهة جنوب لبنان تضامنًا مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، متجاوزًا كلّ الانتقادات التي وجّهها “رفاقه القدامى” في المعارضة لمصادرة الحزب لقرار الحرب والسلم، وهو ما يرى كثيرون أنّه وفّر “غطاءً” للحزب، عزّزه جنبلاط بدحضه نظرية “تحييد لبنان” التي لا يكفّ بعض المعارضين عن المناداة بها، وذلك بوصفها غير واقعية ولا منطقية، في قاموس “البيك”.
وذهب جنبلاط أبعد من ذلك، بتأييده ردّ “حزب الله” على إسرائيل، ووصفه بأنّه “مدروس جدًا”، في إشارة إلى أنّ الهدف منه لم يكن الذهاب إلى الحرب الشاملة، في وقتٍ كان خصوم الحزب الرافضون للحرب في المبدأ ينتقدون “محدودية” هذا الردّ، بل يتبنّون السردية الإسرائيلية بشأنه، حتى إنّ جنبلاط هاجم المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين واصفًا إياه بـ”المحرّض والمنحاز”، مزايدًا بذلك حتى على “حزب الله” ورئيس مجلس النواب، ورافضًا الخطاب الذي يلمح إلى أنّ الحزب هو الذي يعطي الذرائع لإسرائيل للهجوم على لبنان.
وفي وقتٍ توحي مثل هذه المواقف بأنّ جنبلاط يقترب من “التحالف التام” مع الحزب، ويلتحق بمعسكره، فإنّ العارفين يشيرون إلى أنّ شيئًا لا يوحي حتى الآن بـ”انقلاب سياسي” من خلفها على مستوى الرئاسة تحديدًا، فالرجل لم يخرج عن الخطاب الذي يكرّره منذ أشهر طويلة، لجهة ضرورة التجاوب مع مبادرة رئيس مجلس النواب، والذهاب إلى تسوية، يُفهَم منها انسحاب المرشحين المطروحين لصالح خيار ثالث، ولو أنّه أبدى انفتاحًا على فرنجية في وقت سابق.
بالانتقال إلى النواب “المنشقّين” عن “التيار”، فصلاً أو استقالةً، والديناميّة التي أحدثوها في الأوساط السياسية، يقول العارفون إنّها لا تزال حتى الآن محصورة في خانة الردود والردود المتبادلة فيما بينهم وبين “التيار”، ولم يبدأ البحث الفعليّ بالخيارات الفعليّة للمرحلة المقبلة، علمًا أنّ ما قد يهمّ هؤلاء النواب بالدرجة الأولى، وقبل تحديد موقفهم من الاستحقاقات الآنية، هو بلورة تحالفاتهم الانتخابية المقبلة، ولا سيما أنّهم يطمحون لاستكمال دورهم السياسي.
في هذا السياق، يرى العارفون أنّ هؤلاء النواب لن يتسرّعوا في الإعلان لا عن تجمّعهم في كتلة نيابية واحدة رغم تجانسهم وتناغمهم الواضح، ولا عن تأسيسهم “نواة” كتلة يمكن أن تجمعهم إلى جانب نواب آخرين، خصوصًا من المستقلّين، قبل أن يدرسوا التحالفات الانتخابية التي يمكن أن ينسجوها مستقبلاً، لأنّ الأهمّ بالنسبة إليهم يبقى في قدرتهم على استثمار وتوظيف أيّ دور يقومون به حاليًا على مستوى الانتخابات النيابية المقبلة، ولو أنّ أوانها لا يزال مبكرًا.
وإذا كان صحيحًا أنّ هؤلاء النواب، وإن تقاربوا في الرؤى، قد يختلفون في التحالفات، لكون اعتباراتهم وحساباتهم مختلفة، بحسب الدائرة التي يترشحون فيها، فما يسري على بعبدا مثلاً، لا يسري بالوتيرة نفسها على المتن وجبيل، فإنّ التسجيل الصوتي للنائب آلان عون، والذي أوحى بانفتاح على “الثنائي الشيعي”، ما فجّر سجالاً بينه وبين قيادة “التيار”، قد يتصاعد مع اقتراب موعد الانتخابات، أعطى انطباعًا عن التموضع الذي يمكن أن يلجأ إليه.
في هذا الإطار، يقول العارفون إنّ خيارات النواب الخارجين من “التيار” رئاسيًا تبقى مفتوحة، وقد لا يجمع بينها سوى الرغبة بـ”تحدّي” باسيل أيًا كانت وجهته، فهم يمكن أن يجدوا المصلحة الآنية بالالتحاق بالنواب الوسطيين، ورفع حظوظ “الخيار الثالث”، ولكن لا يُستبعَد أيضًا أن يصطفوا إلى جانب رئيس تيار “المردة”، علمًا أنّ بعضهم سبق أن قال إنّه سيمنحه صوته إذا كان سيوصله إلى الرئاسة، وبعضهم يُعتقَد أنّه صوّت له أصلاً في الجلسة الأخيرة.
في النتيجة، قد لا يكون الحديث عن “انقلاب رئاسي” في محلّه، على الأقلّ حتى الآن، بانتظار نضوج المعطيات الفعليّة، لكن الثابت أنّ ثمّة متغيّرات جدّية لا يمكن القفز فوقها، فـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” لم يعد جزءًا من المعارضة، ولو أصرّت الأخيرة على تصنيفه ضمن حصّتها، وتكتل “لبنان القوي” تقلّص حجمه وتأثيره، وتراجع “ثقله النيابي”، ولو أصرّ على أنّه لا يزال “الأقوى شعبيًا”، وكلها عوامل يمكن أن تُحدِث فرقًا، عاجلاً أم آجلاً!.