لقاء مع القائد الجهاديّ الكبير الشهيد السيّد فؤاد شكر: مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت
نقلًا عن مجلة بقية الله - حوار : نهى عبد الله
بعد مواجهات عدّة وتحدّيات صعبة وحروب خاضتها المقاومة الإسلاميّة في حزب الله، أثبتت خلالها صلابتها وقوّة بنيتها وثبات رجالها وعمق عقيدتها، شكّلت لغزاً لكثيرين من الأعداء والأصدقاء، إذ كيف لبضعة من الشباب اليافعين أن يغدوا أبطال العصر وسادة الميدان؟
ما هي قصّة هذه المقاومة؟ وكيف صنعها الله وسدّدها وكانت أبداً في عين الله؟
هو حوار أجرته مجلة بقيّة الله منذ سنة، مع القائد الجهاديّ الكبير الشهيد السيد فؤاد شكر (الحاج محسن) يروي فيه بعضاً من أسرار بدايات المقاومة وتوفيقاتها، وكان مقرّراً أن يستكمل هذا الحوار، لكن التتمّة كانت في الميدان بالشهادة.
– المقاومة الإسلاميّة في لبنان باتت رقماً صعباً، خاضت آخر الحروب وخرجت بنصر إلهيّ. لماذا كان هذا النصر إلهيّاً؟
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾. تميّز النبي موسى عليه السلام بأنّه صنع على عين الله في كنف أعدائه، فنال تلك العناية الإلهيّة الخاصّة لديهم ليصبح في ما بعد مبعوث الله ومسلّطاً عليهم. كذلك المقاومة كوجود خضعت لخطّة رّبانيّة خاصّة لصناعة الإنسان الإلهيّ المجبول بالإخلاص والمدفوع بإرادة اذهب-حاور- قاوم. فجاءت صناعتها في ظرف أُعدّ بصياغة معادية ضمن مخطط معادٍ، من أجل أن يشكّل الشّعب اللبنانيّ جزءاً من منظومة حماية الأعداء، لكن تقدير الله كان أن تخرج المقاومة من رحم تلك الظروف.
عندما نقول إنّ المقاومة مستندة إلى أسس إلهيّة، فمعنى ذلك أنّها ردّ فعل منشؤه الله سبحانه وتعالى، حيث إنّ الطبيعة البشريّة مفطورة على رفض الظّلم ومقاومة أي اعتداء.
– المقاومة بالأساس ردّ فعل مقابل أي احتلال، ما هي الظروف المعادية التي دفعت لانطلاق المقاومة الإسلاميّة؟
في الحقيقة، من الجدير استعراض الظروف التي شكّلت تحدّيات لنشوء المقاومة والتي أعدّها مخطّطاً معادياً كان يتربّص بالمنطقة، لنرى صنع الله. وقد تمثّل المخطّط المعادي بمجموعة من المؤامرات:
1. التآمر على المنطقة (اتفاقية سايكس – بيكو 1916م) (1): كانت إحدى مفردات هذا الاتفاق أن يكون لبنان على الحدود مع فلسطين والجار الشماليّ لها، هو الحامي لإسرائيل المُقبلة، بحسب (وعد بلفور 1917م). وكان المطلوب أن يكون «لبنان الكبير» مقسّماً وفق اعتبارات دينيّة طائفيّة، تساعد على حماية هذا الكيان الدخيل.
2. ضعف البيئة اللبنانيّة: الذي ظهر وترسّخ من خلال التقسيم الداخليّ إلى: إقطاعيين وفلاحين؛ فقد كانت فئة لبنانيّة كبيرة «الفلاحون» محرومةً من أبسط الأمور الحياتيّة والمعيشيّة كالتعليم والعمل.
3. الحرب الأهليّة اللبنانية 1975م: فقد أشغلت اللبنانيّين ببعضهم بعضاً، وسبّبت تنازعاً سياسيّاً شديداً أفرز أحزاباً متفرّقة ومتنازعة، وانعدم الأمن بالقتل على الهويّة والبلطجة ونتج عن ذلك التهجير والاغتراب.
4. اتفاقية (كامب ديفيد 1978م)(2): كانت السبب الرئيس في تكريس الدعوة إلى السلام، في أوّل خرق عربيّ للتعامل مع الكيان الإسرائيليّ في المنطقة، ما كان ينذر بالشؤم والخوف من أن يصبح ذلك أمراً عاديّاً بعد مدّة من الزمن.
5. شيوع مفاهيم سلبيّة في البيئة اللبنانيّة: بعد عمليّة اللّيطاني 1978م، التي احتلّ الإسرائيليّ خلالها قرى جنوب النهر ضمن صراعه مع الفصائل الفلسطينيّة، وأسفرت عن قتل أهل القرى وتهجير ما يزيد على 250 ألفاً من أهالي جنوب لبنان، شاعت إثر ذلك مقولات انهزاميّة: مثل «العين لا تقاوم المخرز»، مع تصوير الوجود الفلسطينيّ في لبنان على أنّه العدوّ، وطمس حقيقة أنّه الضحيّة.
6. الاجتياح الإسرائيليّ 1982م: كلّ ما سبق دفع الكيان الإسرائيليّ، في تلك المرحلة، إلى اجتياح لبنان ظنّاً منه أنّ الوقت المناسب قد حان، علماً أنّ هذا الاجتياح لم يكن مجرّد اجتياح عسكريّ على ظهر دبّابة، بل كان قراراً سياسيّاً وفق مخطّط لتغيير المنطقة، أداته إسرائيل، توقيته 5 حزيران 1982م، ميدانه لبنان. كان المطلوب من الاجتياح أن يصفي القضيّة الفلسطينية بإخراج الفلسطينيّين من لبنان، الذي يتعيّن عليه أن يبرم اتفاقاً مع إسرائيل، فيصبح الفلسطينيّ بلا سند. وكان المطلوب الضغط على سوريا من جهة البقاع كي تخرج من لبنان، مثلما خرجت بعد ذلك، عام 2005م، ومن ثمّ يصبح العصر «عصر التسوية الإسرائيليّة».
في هذه البيئة المنهكة، وبكفاءة عسكريّة بسيطة، وفي ظلّ مشروع معادٍ ضخم، وبتحدٍّ صارخ لكلّ تلك التحدّيّات نبتت بذرة المقاومة. وهذا بحدّ ذاته صناعة إلهيّة في تلك الظروف الصعبة.
– ضمن تلك الظروف الخطرة والصعبة، كيف تمكّن أبناء الأرض من تشكيل مقاومة حقيقيّة؟
لا يمكن القول إنّ ظروف نشأة المقاومة بدأت منذ عام 1982م فقط، بل كانت المقاومة –وما زالت- أحد مكنونات الإنسان بالعموم، ولا سيّما العاملييّن الذين كانوا في إطار المواجهة مع اليهود العنصريّين -الأعداء التاريخيين- الظالمين والغاصبين. ولنقل إنّ مخاض المقاومة بدأت أولى بشائره عندما واجه السّيد عبد الحسين شرف الدين هذا المخطّط المعادي المتمثل بتداعيات (اتفاقية سايكس بيكو) من خلال مشاركته في مؤتمر وادي الحجير ومحاولته دفع الذّل، وإعداد حركات المقاومة استعداداً لمراحل قادمة، تميزت بأنّها حملت وعياً أوليّاً واستشعاراً بالخطر الآتي، فالقضيّة كانت أكبر من تحرير أرض، إنّما هي كانت صيانة هويّة. لذا أرسل السيّد شرف الدين إلى السّيد موسى الصّدر في تلك الفترة طلباً لحضوره إلى لبنان، وبذلك يكون قد حقّق تناغماً فكريّاً مع الإمام الخميني قدس سره الذي كان يُحضّر السيّد موسى لمرحلة مقاومة تلبّي تحدّيات ما بعد مرحلة السّيد عبد الحسين.
وقد استطاعت هذه القيادة أن تقلب الموازين من مرحلة إلغاء المشروع الذي كان يرسم لشيعة جبل لبنان، إلى مشروع بناء مجتمع المقاومة الذي بدأ بمفاهيم انقلابيّة ثوريّة: «إسرائيل شرّ مطلق». مع ملاحظة أنّ المقاومة نشأت في ظرف بيئتها التي كانت تُعد لتكنّ العداوة للشعب الفلسطينيّ، لا لتحارب العدوّ الإسرائيليّ. وهذا الانقلاب كان مدداً من الله.
– لا يمكن الحديث عن تاريخ المقاومة من دون السيد موسى الصدر، بماذا تميّزت مرحلته؟
كان السيّد موسى صياغة وصناعة إلهيّة ادُّخرت للبنان. وهو أوّل من أظهر ثقافة أنّ «الشرّ المطلق هو إسرائيل وأنّه يجب قتالها» في لبنان، فهي المحور والقضيّة الأساسية، متناغماً بذلك مع فكر الإمام الخمينيّ قدس سره أيضاً. ونلخص أهمّ محطّات مرحلته:
1. إسرائيل هي العدوّ: عمل السيّد موسى في لبنان على إيجاد قدرة وبنية لمواجهة إسرائيل، منذ عام 1978م حيث كانت الولادة القيصريّة للمقاومة قبل أوانها، والتي لها ظروفها السياسيّة والجغرافيّة والعسكريّة والأمنيّة المرتبطة بكامب دايفيد. آنذاك استشعر السيّد موسى الخطر الفعليّ، وحاول أن يقول للعالم كلّه إنّ إسرائيل هي العدو، مانعاً بذلك انحراف البوصلة عن مسارها الأساسيّ.
2. فكرة مجتمع المقاومة: طرح السيّد موسى فكرة بناء المجتمع المقاوم ليكون قوّة في مواجهة الكيان الصهيوني، لا كما أُريد لمجتمعنا أن يكون في مواجهة أعداء الكيان. وللتوضيح؛ أخرجت الحرب اللبنانيّة عام 1975م الناس من دائرة الاسترخاء والهدوء والتبعيّة والحياد أيضاً إلى دائرة الموقف والجهاد والقتال والتدريب العسكريّ، ما صنع بيئة عسكريّة أوليّة للفرد.
3. تحديد أهداف المقاومة: صحيح أنّ المقاومة في تلك الفترة، كان لها هدف محدّد، وليس كلّ من وقف في مواجهة الاجتياح الإسرائيليّ كان له الهدف نفسه، بل كان هناك فئات مختلفة لها أهداف مختلفة أما المقاومة الإسلاميّة فكانت بدايتها متواضعة الأهداف. فظنّ الإسرائيلي، أنّه الوقت المناسب لتحقيق الهدف المنشود للتخلّص من الفلسطينيين، لكنّه غفل عن المكْر الإلهيّ.
– ما هو دور ولاية الفقيه في تشكيل بنية المقاومة الإسلاميّة التي نراها اليوم؟
تلك كانت شرارةً خاصّة لها امتدادات، وكان الذي أطلقها هو الإمام الخمينيّ قدس سره. فعندما حصل الاجتياح الإسرائيليّ أحدث زلزالاً داخليّاً وغربلةً في بيئة المقاومة لفرز حقائق أهداف الناس، فبعضهم انسجم مع فطرته وفكره ومبناه، وذهب إلى الإمام الخمينيّ قدس سره الذي بيّن لكلّ من يريد القتال حقيقة التكليف الشرعيّ، وثمّة آخرون تذرعّوا بقاعدة: «لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة» أو ذهبوا إلى أعذار مختلفة بحجّة أنّ مواجهة الكيان كانت لا تزال أمراً مستصعباً. ولا نكشف سرّاً إذا قلنا إنّ تلك المرحلة عزّزت مواجهة الكيان الصهيونيّ الذي بنى مشروعه الكبير على أساسين خبيثين جداً:
1. الإسراع في إعدام القضيّة الفلسطينيّة حتّى لا تتلقفها إيران.
2. تصوير دعم الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران للمستضعفين على أنّه امتداد إيرانيّ خطر يجب منعه؛ لأنّه ينادي بالقضيّة الفلسطينيّة.
ما يميّز تلك المرحلة مع الإمام الخميني قدس سره أنّ القلب تعلّق بالوليّ، وذلك أدّى إلى الهُدى، ما سهّل عمليّة قتال هذا الكيان ما بعد الاجتياح وبسهولة. وما زالت مقولته: «يجب قتال إسرائيل ولو باللحم الحيّ» تدوّي من ساحة المسجد، والتي هي ساحة الإمام الخمينيّ قدس سره الحقيقية، فكوّنت هذا الوعي بـثقافة أداء التكليف؛ فقد كان هدف فئة الشباب في بدايات المقاومة إطاعة التكليف.
– ما تأثير ثقافة التكليف في استمراريّة المقاومة واستدامة نمائها بكلّ هذا الزخم والعقيدة القتاليّة اليوم؟
ثقافة التكليف هي النقطة الأساسيّة وبيت القصيد، وهنا تكمن البصيرة، وبها يحقّق الهدف الكامل. فلو لم يحصل قتالٌ حقيقيٌّ على خلفيّة هذه الأهداف للمقاتلين، لأصبحت المقاومة جزءاً من منظومة الاستثمار السياسيّ للمتراجعين، ولانتهت أشكال المقاومة وتراخت، ولم يكن لينشأ حينها حزب الله بهذا الشكل أو لانحرف مساره. كانت هناك فئة قليلة تعمل على هدفها، وهو أداء التكليف. وكانت الحكمة الإلهيّة أن تنشأ مقاومة ترتبط بالوليّ، وهذا ما يحقّق أهدافها ويعطيها بصيرة وحكمة، والبركات التي نراها اليوم هي نتيجة ذلك دون شك.
الشباب المجاهدون في بدايات المقاومة كانوا يافعين إلى درجة أنّ من يراهم يرتادون المساجد يُدهش لهذا المشهد الغريب، كانوا يعتقدون أنّ المساجد هي لكبار السنّ، هؤلاء الفتية كانوا مؤمنين امتلكوا إرادة امتشاق السلاح بوعي واتّزان وتفانٍ قلّ نظيره، لكن هل بإمكانهم تحديد تكليفهم، وكيفيّة مواجهة عدوّ قويّ متربّص، وتحديد نقاط ضعفه وكيفية ضربها؟ كانوا يملكون إرادة الجبال لكنّهم يحتاجون إلى البصيرة التي تدلّهم على الطريق الأنجع. لذلك تتوّجت تلك المسيرة بولاية الفقيه وثقافة التكليف، أي أن تنتظر الوظيفة الصحيحة لظرفك وأن تكون مستعدّاً لها. هذه الجهوزيّة هي سلاح بحدّ ذاته. الدرجة الأعلى أن تعلم ما يريده الوليّ وترفع درجة الجهوزيّة في نفسك. إذا قمت بواجبك فالنتيجة في يد الله.
– إذاً كيف تأسّست المقاومة الإسلاميّة في لبنان رسميّاً؟
إنّ أصل المقاومة الإسلاميّة في لبنان صناعة إلهيّة، ومطلقها هو الإمام الخمينيّ قدس سره، وأهدافها مواجهة المشروع الكبير وامتداد لدولة الإسلام التي بدأها بطرحه تكليف الجهاد ضد الكيان الصهيونيّ، حيث قال لاحقاً: «جهاد شباب حزب الله في لبنان حجةٌ على جميع علماء المسلمين في العالم». ونتيجة جهاد الشباب وإنجازاتهم في الميدان وصمودهم وعقيدتهم القتاليّة وتضحياتهم، ونتيجة ترسيخ مفهوم الشهادة تأسست المقاومة. فأن تعيش فترة من حياتك مع إخوة على درجة من الأخلاق والمعنويّات والارتباط بالله، والانضباط والتفاني، أن يتعلّق قلبك بهم وتراهم يستشهدون ويتركون ذويهم وعائلاتهم وأطفالهم، حتى أنّهم كانوا لا يتقاضون أجراً ماديّاً، بل يقدّمون كلّ ما يملكون لشراء السلاح والعتاد، هؤلاء غيّروا المعادلات في الميدان، وبات لهم وزن خاص في القضيّة ويهابهم العدوّ. لم يُعلن عن حزب الله رسميّاً ولا عن المقاومة إلا بعد أن شقّ هؤلاء الشباب ذاك الطريق، وجاء الإعلان الرسميّ عن حزب الله في دير قانون النهر عام 1985م، في حين أنّه بدأ عملياته الجهاديّة في 1982م.
– إلى أيّ مدى يمكن للمقاومة في لبنان أن تكون شرارةً لمحور المقاومة للمستضعفين في العالم؟
بالطبع يبرز أهميّة دور المقاومة الإسلاميّة في لبنان حين تقدّم الإسلام مشروعاً حضاريّاً: حضارة الثورة، حضارة الحكم، حضارة المجتمع وسلوكه العام وأخلاقه، وبعدها تتحقّق حضارة الفرد حين يصبح هذا الأخير حضارة بنفسه. لأنّ الجهاد والشهادة عاملان مهمّان في تغيير العالم وإزالة الاستكبار وتاسيس العدالة الحقّة، وهذا يُعدي وينتشر، فكم مظلوم ومستضعف في العالم يتوق للعدل؟!
لكن تلبية العدل تحتاج أن تشملها كلّ القيم الأخرى، أي أن تشملها منظومة الإسلام الحضاريّة، وما يدمي القلب أنّ الإمام الخامنئيّ دام ظله يقول إنّنا حققنا الخطوة الأولى في طريق تحقيق الحضارة الإسلامية ولم نصل إلى الثانية بعد.
هي مسيرةٌ بعين الله وحده، وتحقيق هذه الأهداف بعينه ورعايته أيضاً.
1- اتفاقية (سايكس – بيكو): تفاهم سرّي بين فرنسا والمملكة المتّحدة والامبراطورية الروسية، لتحديد مناطق نفوذهم في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، وقد حصلت فرنسا على سوريا ولبنان، فيما سيطرت بريطانيا على الأردن وفلسطين، فيما تلاها (وعد بلفور) بعد عام واحد على التقسيم، ليؤمّن وجوداً للإسرائيلي، الذي أعلن احتلاله لها في 1949م.
2- اتفاقية (كامب – دايفيد): معاهدة السلام المشبوه التي تم توقيعها بين أنور السادات بصفته رئيساً مصرياً ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن بإشراف أمريكي، في 17 أيلول/سبتمبر 1978م. واللافت أن بنود الاتفاقية ما زالت سريّة حتى اليوم، ولم تعرض على البرلمان المصري.