لبنان، يودع الرئيس سليم الحص.. الآدمي، الذي خاف منه السماسرة
يودّع لبنان، اليوم، الرئيس سليم الحص، الذي وافته المنيّة عن 95 عاماً، بعد مسيرة زاخرة بالخبرة السياسية والاقتصادية وسيرة ملازمة للوطنية والاستقامة والإصلاح. مثّل الرئيس الراحل «ضمير» لبنان، والشخصية العابرة للسياسة بمعناها اللبناني الضيق، الواضحة في انتمائها، الفذّة التي اجتمعت على احترامها وثقتها ورجاحة عقلها شريحة من كبار السياسيين في الداخل والخارج.
يصلّى على جثمانه بعد صلاة ظهر اليوم في مسجد الإمام الأوزاعي، ويوارى في ثرى مدافن المقام. وتقبل التعازي في قاعة الدكتور محيي الدين برغوت – مسجد الخاشقجي بعد الدفن، ويومي الثلاثاء والأربعاء من الواحدة ظهراً حتى السابعة مساء.
الحص الذي أوصى قبلَ سنوات بأن «اجعلوا البوصلة دائماً نحو تحرير فلسطين، كل فلسطين»، ووصفه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أمس بأنه «كانَ رمزاً للوطنية والنزاهة وسنداً للمقاومة ومؤيداً لها حتى اللحظات الأخيرة من عمره»، هو الاقتصادي الذي تسلّم رئاسة الحكومة في أحلك ظروف الحرب، مرتين في عهد الرئيس إلياس سركيس (1976-1980)، ومرة بالوكالة بعد استشهاد الرئيس رشيد كرامي (1987) في عهد الرئيس أمين الجميل، الذي انتهت ولايته بحكومتين، واحدة برئاسة الحص، والأخرى عسكرية شكّلها الرئيس ميشال عون عندما كان قائداً للجيش. وشكل حكومة في عهد الرئيس الياس الهراوي (1989 – 1990) وعهد الرئيس إميل لحود (1998 – 2000). كذلك تولّى وزارات الصناعة والنفط، الاقتصاد والتجارة، التربية، العمل، والخارجية، انتخب نائباً عن بيروت عام 1992، وأعيد انتخابه عام 1996 حتى عام 2000 عندما خسر في وجه اللائحة التي شكّلها الرئيس رفيق الحريري.
ولد سليم أحمد الحص عام 1929 في منطقة البسطة، حيّ حوض الولاية. تعلّم في مدارس المقاصد، وأكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت، في الاقتصاد والعلوم السياسية، قبل أن يحصل على الدكتوراه في الاختصاص نفسه، من جامعة أنديانا الأميركية. تزوّج ليلى فرعون (توفيت عام 1990) ولهّ ابنة وحيدة: وداد سليم الحص، وله حفيد يحمل اسمه وهو الطبيب سليم رحال.
رجل عصاميّ بنى نفسه بنفسه
وصدر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، عصر أمس بيان جاء فيه: «بكل حزن وأسى، أنعى إلى اللبنانيين دولة الرئيس سليم الحص، الذي رحل في أصعب وأدقّ مرحلة يحتاج فيها لبنان إلى ضميره وحسّه الوطني والعروبي، وإلى حكمته ورصانته وحسن إدارته الشأن العام». وأضاف البيان أن «الكتابة عن الرئيس سليم الحص مهمة صعبة وسهلة في الوقت ذاته. صعبة لأن كل الكلمات لا تفيه حقه، وسهلة لأنه بحر من العطاء في حياته المهنية». وتابع، «كان اقتصادياً بارزاً ومثال الخبرة والأخلاق والعلم، يضع المصلحة العليا ومصلحة المواطن فوق كل اعتبار، وكان متجرّداً وموضوعياً ودستورياً بامتياز». وتابع: «الرئيس الحص الذي وصل إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه رجل عصاميّ بنى نفسه بنفسه ليصل إلى أعلى درجات العلم، وأرفع المناصب، ليكون رئيس حكومة ناجحاً في لبنان، ويستحق بعد سنوات من العطاء والتضحية لقب ضمير لبنان ويدخل إلى الأبد في وجدان اللبنانيين». وأعلن ميقاتي الحداد لثلاثة أيام. كذلك نعى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الحص قائلاً: «في الزمن الذي يفتقد فيه لبنان النقاء والصفاء والقامات الوطنية الشامخة، يفقد الوطن قيمة من قيمه الإنسانية التي جمعت كل تلك الخصال وأكثر، دولة الرئيس الدكتور سليم الحص، رجل الدولة والإنسان في ذمة الله، إلى اللبنانيين عامّة، وأبناء العاصمة بيروت أسمى آيات العزاء، وللراحل الكبير الرحمة».
رئيس تيار المردة، سليمان فرنجية، قال عبر منصّة «اكس»: «برحيل دولة الرئيس سليم الحص، يخسر لبنان شخصية قلّ نظيرها في السياسة والوطنية والآدمية والالتزام بالقضايا الوطنية وبالهوية». كما نعى الرئيس تمام سلام الحص قائلاً: «قامة وطنية كبيرة من بيروت ومن لبنان رحلت اليوم، ورحل معها الصدق والنبل والاستقامة وعفّة النفس. الرئيس سليم الحص خدم وطنه بأمانة وإخلاص وبسلاح الموقف الذي اعتبره واعتمده في مواجهة السلاح غير الشرعي وقوى الأمر الواقع. بيروت هي مدينته وعرينه وحاضنة مسيرته الزاخرة بالعلم والأخلاق، مترفّعاً عن الصغائر، همّه الإنسان وكرامته وحقوقه. رحم الله هذه النفس الأبيّة والكريمة والسامية، وأسكنها فسيح جنّاته».
الآدمي، الذي خاف منه السماسرة
هكذا هو سليم الحص. عاقل وراغب بالأفضل. رأى في لبنان كياناً قابلاً للحياة، إن أحسن أهله التوافق على حكم عادل. لم تغشّه كثرة الكلام، بل كان يرى الكثير من الحرية، ونقصاً في الديموقراطية التي تفرض المحاسبة.
الرجل الآدمي، الذي خاف منه السماسرة حيثما حلّ، كان عارفاً بالأمور، ويصعب على الآخرين الكذب عليه. لم يركن يوماً إلى عسس يأتونه بالأخبار. لم تصدمه خيانة هذا أو ضعف ذاك، وهو الذي رفض أن يطلب لنفسه شيئاً حتى لا يكون أسير صاحب قرار.
رحل سليم الحص، ومعه أسراره الخاصة بوعيه الخاص بالصراع مع إسرائيل. لم تكن عدوّاً على شكل عبارة في خطاب. وإلى اليوم الذي فقد فيه قدرته على التفاعل، بقي سليم الحص على علاقة خاصة جداً مع المقاومة وقائدها: ناضجاً وناصحاً ومنبّهاً ومقترحاً، وها هو يرحل وقد غمرها بكل الحب لما تقوم به من أجل فلسطين.