زاخرة هي مسيرة العظماء المؤثرين، فكيف إذا كانوا مؤمنين محتسبين وهم إلى جوار ربهم في معراج الشهداء الأبرار عائدين، ها هو الميادين نت يطلّع على شذرات نفيسة من سيرة إيثار في حياة الشهيد إسماعيل هنية الإنسان الرؤوم والقائد القدوة.
“إنه لجهاد، نصر أو استشهاد”، عبارة لطالما رددها “أبو العبد”، القائد الشهيد إسماعيل عبد السلام أحمد هنية، في حياته المحفوفة بالخطر، والمزنّرة بالتهديدات التي تحيق بكل مناضل شريف، وهب روحه لقضية فلسطين المحقة.
يجمع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، المولود عام 1963 في مخيم الشاطئ للاجئين غربي مدينة غزة، في بوتقة واحدة، ثلةً من الخصال التي قلّما اجتمعت في مسؤول. فالدمث صاحب النظرة الثاقبة، ابن مدرسة المقاومة التي تقوم على الإيثار والبذل وتقديم الذات. حتى بُعيد محاولات الاغتيال التي طالته، كان الرجل مؤمناً محتسباً متماسكاً.
اشتهر إسماعيل هنية بخطبه القوية وفصاحته اللغوية، وساعده على ذلك دراسته اللغة العربية واهتمامه بالأدب العربي، وهو ما أدى دوراً في تكوين “كاريزما” تستقطب القريب والبعيد.
لعل في كلام زوجة نجل الشهيد إسماعيل هنية، إيناس، ما يلخص حياة عمّها المقدام، فقالت، عبر وسائل التواصل، “أنعى رجلًا تضجّ الأرض والسماء بطِيب ذكره؛ رجلاً غنياً عن التعريف. أنعى عمي وحبيبي وأبي، وتاج رأسي وقرّة عيني، العم أبا العبد هنية”.
عبارات إيناس المكلومة باستشهاد زوجها وأولادها وعمها وغيرهم، تحمل عصارة أهم ما يمكن توصيف الشهيد إسماعيل هنية به. وهو الذي كان يردد بعد كل محاولة اغتيال طالته، بأنه “تعلّم من الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس، حبَّ الإسلام، والتضحية من أجله، وعدم الركوع للطغاة والمستبدين”.
إسماعيل الشابّ.. واللقاء الأول في مخيم مرج الزهور اللبناني
يروي رجل الأعمال الفلسطيني اللبناني، نزيه البقاعي، للميادين نت، كيف التقى الشهيد أبا العبد في مخيم “مرج الزهور” (مرج الزهور هي إحدى القرى اللبنانية من قرى قضاء حاصبيا في محافظة النبطية جنوب لبنان)، حيث أبعد الاحتلال 415 قيادياً ومسؤولاً فلسطينياً من غزة والضفة والقدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، بفعل قرار غاشم، إلى لبنان بين كانون الأول/ديسمبر 1992 وكانون الأول/ديسمبر 1993.
هالَ البقاعي هذا المشهدُ المهيب للقادة الفلسطينيين، فقرر أن يساهم في مساعدتهم في هذا المكان المقفر البارد. أجرى اتصالاته برجال أعمال وفعّاليات، وجمع شاحنة خضروات وبطاطا وتوجّه نحوهم.
يروي البقاعي كيف التقى الشاب إسماعيل أول مرة، يقول: “نزلت من بلدة لبّايا البقاعية من أجل لقاء الأخوة سيراً على القدمين. قرب العين في أسفل الجبل تناهى إلينا ما يشبه الدندنة. وعندما اقتربنا سمعنا الأناشيد الدينية والجهادية. فجأة رأيت شاباً يحمل عبوات الماء (تزن 70 كلغ) ويبتسم، وبادرني بعد التحية بالقول إنهم في عرس وطني هنا. فأبناء الضفة الغربية وغزة والقدس التقوا هنا، ولم يكونوا يحلمون بمثل هذا، وهم يُعِدّون أنفسهم للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة التحرير!”.
يتابع: “قال لي يا أخ سيندم رابين (إسحق رابين رئيس حكومة الاحتلال آنذاك) على اللحظة اللي فكر فيها في إبعادنا”. بذهول وحيرة سألته عن اسمه، فقال: أنا أخوكم الفقير لله إسماعيل عبد السلام هنية!”.
كان خادماً لإخوته
ما قاله هنية لحظة هذا اللقاء تبيّن لاحقاً أنه حقيقة، وأن خطة الاحتلال فاشلة، بحيث لقي المبعدون الدعم والتعاطف، عربياً وعالمياً، وكان لقاء الكوادر توطئة لاستحقاقات فلسطينية لاحقة، بينها انبثاق الدستور والانتفاضة وغيرهما.
وبعدها، يكمل البقاعي: “بدأ التواصل بيننا شخصياً، والطريقة التي كان يخاطبني بها بدت كأنه خادم لإخوته في المخيم. وكنت أجهل مهمته في حركة حماس. استمرت العلاقة عاماً كاملاً، وكنت ألتقيه عند كل زيارة لي للمخيم، وكان مهتماً بتجهيز قائمة حاجات المبعدين، يطلبها بخجل واحترام، مقرونين بدعاء، على الرغم من بساطة الحاجات لبعض المبعَدين، مثل بعض الملابس وبعض الحاجات الأساسية”.
يتابع البقاعي: “قلت له مرة، يا أخ إسماعيل، تطلب للأخوة، ولم تطلب أي شيء خاص لك، فردّ علي: أنا مش مشكلة، المهم الإخوة ما يحتاجوا”. ويضيف: “أذكر أنه كان يرتدي بيجاما، أساس لونها أصفر، ومن كثرة الغسل بهتت وصارت في هيئة مزرية، فأحضرت له بيجاما على مقاسه، فما كان منه إلاّ أن أعطاها لأحد الإخوة في المخيم ولم يلبسها، قائلاً: هو في حاجة إليها أكثر مني”.
“أبو العبد” والتعاطي مع الجيران
في إحدى الزيارات للمخيم، رأيت منزلاً مجاوراً وقربه بستان زيتون. سألت أبا العبد هنية من هو صاحب المنزل، قال لي إنه الحاج علي إبراهيم، من بلدة لبّايا البقاعية، وذكر لي أوصافه. فقلت له مباشرة: افتح المنزل يا حاج، واستخدمه مستودعاً خلفياً للمواد الغذائية التي تردكم، فقال لي: أستغفر الله، كيف لنا أن ندخل أملاكاً خاصة ونعتدي على حرمتها”، فأبلغته أن صاحب المنزل وأهله أصدقاء، وكلي ثقة بأن لا مانع لديهم من استخدامه، فرفض، إلى أن عُقد اجتماع مع لجنة المخيم بحضوري، ووافقوا على ذلك، على كامل مسؤوليتي مع تعهّد مني شخصياً بإبلاغ أصحاب الأرض”.
يتابع البقاعي: “أبو العبد هنية كان من أكثر الناس تعاطياً مع الجوار، وهذه ثقافة كان يتمتع بها جميع إخوته في المخيم”.
ولا بد من الذكر أن هنية كان رياضياً نشيطاً، وهو الذي نظّم عدة نشاطات رياضية وثقافية وبيئية وغيره في المخيم مع رفاقه.
أبو العبد ورسالة الرئيس حافظ الأسد
ويروي البقاعي تفاصيل متعددة وقصصاً عن تلك المرحلة التي وجدت خلالها في المخيم أغلبية الشخصيات التي قادت حماس في مرحلة لاحقة. يقول في إحدى القصص: “في اليوم الأخير للإبعاد، أبلغني هنية أنه ذاهب معي إلى البقاع. وفي منتصف الليل، وصل موفد من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد فاستقبله، وعدنا باكراً إلى المخيم، وكان الاجتماع بالدكتور عبد العزيز الرنتيسي، بحيث أبلغه رسالة الرئيس الأسد بشأن الاستعداد لاستقبال الإخوة المقاومين في سوريا، وتقديم كل حاجاتهم الخاصة، وأن الرئيس يحيّيهم على صمودهم، ويُوصيهم بالمحافظة على المقاومة، وأن فلسطين ستنتصر حتماً”.
وفاء إسماعيل هنية
بعد نضالات مشهودة ودعم شعبي وصدور القرار 799 عن مجلس الأمن الدولي، انكسرت شوكة رابين وحكومته، فعاد المبعدون إلى فلسطين بعد عام كامل. يقول البقاعي إنه قام بزيارة غزة بعد مضي 21 عاماً على مرحلة الإبعاد، وشرح: “كنت أعتقد أنني لن أجد من يتذكرني بعد هذه المدة، وخصوصاً أن الإخوة، في أغلبيتهم، أصبحوا في مراكز سياسية وعسكرية حساسة في قطاع غزة. وعند وصولي كانت المفاجأة في تهافت الجميع إلى السلام والتحية”.
وبشأن استقبال هنية له، يقول البقاعي: “كان أبو العبد أول المستقبلين، حتى شعرت بالخجل بسبب ما وصفني به هو وإخوانه الوزراء. فعلاً لم أقع على هذا الحجم من الوفاء في حياتي. كرّمني “الرئيس” هنية حينها في غزة باحتفال خاص وغداء مع مجلس الوزراء، ومنحني جواز سفر فلسطينياً دبلوماسياً، ولم ينقطع الاتصال من يومها به حتى لحظة استشهاده. وفي كل زيارة له للبنان كنت ألتقيه، وكان يسألني عن كثير من الإخوة الذين كانوا يترددون إلى مرج الزهور”.
عودة إلى “مرج الزهور” بعد 29 عاماً
عام 2021، زار الشهيد الراحل مخيم مرج الزهور، بعد 29 عاماً على الخروج منه.
يومها وصف الإبعاد، الذي استغرق نحو عام، بأنه شكّل “مرحلة فارقة جسّدت تحولاً استراتيجياً في مسيرة حركة حماس والشعب الفلسطيني”.
وقال إنه لا يمكن أن ينسى الترحاب من سكان مرج الزهور، ومساندتهم للمبعدين، ووقوف لبنان وشعبه وقيادته ومقاومته إلى جانب موقف المبعدين وصمودهم، وتعزيز عناصر الصمود لهم.
وأضاف أن تاريخاً مشتركاً بين حركة حماس ولبنان كُتب في هذه المنطقة. تاريخٌ يستعاد اليوم، ويتم تأكيده من خلال اشتراك لبنان وفلسطين ومقاومتيهما في الدم ومواجهة المحتل والخلاص منه.
آخر محادثة: تعزية وطلب إنساني
وبشأن آخر محادثة للبقاعي مع الشهيد هنية، يقول إنها تمت بعيد استشهاد أولاده الثلاثة، حازم وأمير ومحمد، إلى جانب عدد من أحفاده، في إثر استهداف الاحتلال سيارةً كانوا يستقلّونها في مخيم الشاطئ، غربي مدينة غزة، في 10 نيسان/أبريل الماضي.
يقول البقاعي: “يومها، اتصلت به من أجل تقديم واجب العزاء والمباركة بالشهادة، فكان ردّه: يا أخ نزيه، أتمنى عليك أن تتمنى لي الشهادة، وأن يكرمني الله بها”.
وكان الشهيد هنية تلقّى نبأ استشهاد أفراد من عائلته وهو في الدوحة. وفي تلك اللحظات الصعبة، قال إن “الله يسهّل عليهم ويرحمهم ويلطف بالباقي”.
يتابع البقاعي: “في تلك اللحظة، لمست، عبر الهاتف، مدى بأسه وصبره وإيمانه وقوة شكيمته. وبعد أيام عدت وطلبت إليه مساعدة مريض لديه زراعة كبد في مدينة شيراز الإيرانية، وتمنيت تدخله من أجل إنقاذه لأن وضعه مأسَوي. وبعد 10 دقائق فقط، عاد واتصل طالباً اسمه وأرقام هواتف ذوي المريض وطبيبه. طلع الصباح، فتوجه فريق طبيّ من طهران إلى شيراز، وجرت العملية التي كانت تكلف 80 ألف دولار”.
يذكر البقاعي أنه اعتذر إلى الشهيد هنية لأنه طلب المساعدة في هذا الوقت العصيب، فبادره أبو العبد فوراً: “كل الناس أبنائي، وهو مثل أولادي الذين استُشهدوا”.