تسير النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون في حقل ألغام، زرعته السلطة القضائية أمامها لتنحيتها عن الملفات المتعلقة برؤوس السلطة السياسية والحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة والمصارف. فيما يسير النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار على خطى سلفه القاضي غسان عويدات الذي أوقف التحقيقات في عمليات الاحتيال والسرقات التي قادها سلامة وأصدر تعميماً بوقف التحقيقات المتعلقة بالمصارف، ووجّه كتباً إلى القضاة بعدم تلبية أي طلب موجّه من عون، إذ أصدر الحجار تعميماً مشابهاً بالشكل والمضمون، أمس، يقضي بكفّ يد عون عن الملفات التي تحقّق فيها بذريعة «إعادة الانتظام الى عمل النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان»، فيما نتيجته الفعلية إعادة الانتظام إلى مصالح أصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان السابق والسياسيين والنافذين وكل من استفاد من سرقة أموال المودعين.وطلب الحجار من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي التوقف عن أخذ الإشارات من القاضية عون ومراجعة المحامي العام الاستئنافي المناوب في جبل لبنان. كما أشار إلى ضرورة مراجعة المحامي الاستئنافي عند ورود أي تكليف أو إشارة أو طلب أو إحالة من عون إلى الضابطة العدلية مهما كان نوعها، وشمل بهذه الإجراءات الوزارات والإدارات الرسمية وأي جهة أخرى من القطاعين العام أو الخاص، وأمر بمراجعته في كل «الجرائم الهامة».
يأتي ذلك بعد فشل السلطة القضائية في إصدار أي قرار بحق عون من خلال الهيئة العليا للتأديب وفشل إحالتها إلى هيئة التفتيش القضائي المعطّلة بفعل الشغور، إذ إن المفتشة العامة الوحيدة المتبقية هي القاضية سمر سواح، ولا يمكنها استدعاء عون التي تفوقها بعشر درجات.
وأتى قرار الحجار بمعاقبة عون تحت مبررات «التخاطب غير اللائق وغير المألوف بحق رئيس مجلس القضاء الأعلى وزملاء لها» و«مخالفة طلبات موجّهة إليها من النائب العام التمييزي»، لتنحيتها عن التحقيقات التي تقودها. وبدا مستغرباً أن يضمّن كتابه تحليلات غير مألوفة من دون إسنادها بأدلة ووقائع. فقد اتهم عون باتخاذ إجراءات «تلبس ثوب حماية حقوق المودعين في وجه المصارف في حين أصبح واضحاً أنها تهدف إلى تأمين امتيازات لبعض المحظيين ولقلة قليلة من الأشخاص على حساب أموال المودعين».
ما نصّه القاضي حجار في كتابه ليس سوى جزء من القصة التي بدأت مع طلبه من عون إيداعه ملفات المصارف لإعطاء توجيهاته بشأنها، وعليه أرسلت له ملفاً يتعلق بمصرف عودة. وبسبب تزامن الأمر مع جلسة للتحقيق في أعمال البنك، طلبت عون من الحجار إعادة الملف إليها ليتسنى لها متابعة التحقيق، الا أنه لم يفرج عن الملف، ما حال دون متابعة التحقيقات في مخالفات تقول عون إن المصرف قام بها لمصلحة رياض سلامة ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. كذلك تزامن طلب الحجار الاطّلاع على ملفات المصارف مع إرسال عون كتباً إلى كل المصارف تطلب فيها توضيحات حول تحويلات مالية بقيمة 111 مليون دولار أتى على ذكرها تقرير شركة «ألفاريز أند مرسال» الذي لم يستطع تحديد هوية المستفيدين منها.
وعلمت «الأخبار» أن هوية المستفيدين بدأت تتكشف، كما اتضح أن المبلغ هو جزء من تحويلات وعمليات أكبر، مرّت عبر 6 مصارف لبنانية (بنك عودة، بنك الموارد، بنك مصر لبنان، البنك اللبناني للتجارة، فرنسبنك، انتركونتينتال بنك)، ومن بينها تحاويل مرسلة من المحامي ميكي تويني إلى ابن شقيقة سلامة مروان عيسى الخوري الذي حوّلها بدوره إلى حساب شركة «فوري» التي يملكها شقيق سلامة، رجا. علماً أن تويني هو أحد المستشارين القانونيين السابقين للمصرف المركزي وعضو مجلس إدارة في عدد من المؤسسات اللبنانية كشركة طيران الشرق الأوسط، وعدد من المصارف، من بينها HSBC والبنك اللبناني للتجارة وفرنسبنك وبنك لبنان وسوريا. وكان القاضي جان طنوس استدعاه إلى التحقيق سابقاً لاستجوابه حول هذه المسألة بالذات. كذلك تتابع عون تحقيقاتها في ملف شركة «أوبتيموم»، بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، لمعرفة وجهة صرف 8 مليارات دولار وقد أحرزت تقدماً كبيراً في هذه التحقيقات.
النتيجة الفعلية للقرار وقف التحقيقات مع أصحاب المصارف
ما سبق، هو ما ساهم فعلياً بكفّ يدّ القاضية عون، إذ بات واضحاً أنه وفي كل مرة تمسّ فيها بسلامة وأصدقائه وأصحاب المصارف، تنقضّ السلطة القضائية عليها متهمة إياها بالشعبوية والاستنسابية والعمل ضد المودعين، في حين أن أياً ممن الذين يتبوأون مناصب أعلى منها أو أدنى لا يتجرأون على فتح ولو ملف واحد أو أقله متابعة التحقيقات في ملف سلامة بدل ابتداع الذرائع لضبضبته. وبذلك تكون السلطة القضائية نجحت مجدداً في وقف أحد أهم الملفات لكشف مزيد من الخيوط في عملية سرقة الأموال العامة وأموال المودعين. وبعكس ما أورده الحجار في كتابه بأن السبب وراء هذا الإجراء هو مخالفتها لأصول التخاطب، فإن قرار كفّ يدها كان متخذاً مسبقاً. فمنذ أكثر من أسبوعين تلقّت عون كتاباً من الحجار يبلغها فيه بدعاوى المخاصمة الموجّهة من المصارف ضدها والتي ترفض تبلّغها، طالباً منها رفع يدها عن ملفات المصارف ووقف التحقيقات فيها بسبب هذه الدعاوى. ولمّا ردّت على كتابه هذا مؤكدة قرارها عدم التنحي وتمنّت عليه إرسال توجيهات مماثلة إلى كل المدعين العامين الذين يخالف معظمهم القانون، مذكّرة إياه برفض رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود تبلّغ دعوى المخاصمة التي قدّمتها ضده بصفته رئيس الهيئة العليا للتأديب التي تحاكم أمامها؛ أحالها إلى مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه عبود نفسه! وكان قرار الأخير بإحالتها إلى هيئة التفتيش القضائي متوقّعاً بتهمة «تمردها على رئيسها وإساءتها إلى القضاة».