اخبار محليةالرئيسية

الانتحار على مراحل – بقلم الشيخ صادق النابلسي

 جريدة الأخبار

لم يمر يوم من أيام «القرون الوسطى» اللبنانية إلا واسم القوات اللبنانية هو الأبرز والأعلى. مع «النقلة النوعية» للبنان في تلك القرون، من لبنان «العيش المشترك» إلى لبنان «ما بعد الإنسانية»، كان اسم القوات حاضراً بقوة. وأي لبنان أنسب للقوات، وليس أي قوات أنسب للبنان، كان السؤال الذي شغل عقل الفلاسفة والقدّيسين في هذه الميليشيا؟ وتمت الإجابة عليه بمجازر إهدن وتل الزعتر والكرنتينا والصفرا وصبرا وشاتيلا واغتيال رشيد كرامي وداني شمعون والقتل على الهوية…أسرفت الكوادر الأولى المؤسِسة في تعظيم «النزعة الفردية»، وبالغت في تقدير قيمة «الإرادة الذاتية» – ربما يكون ذلك مأخوذاً من فلسفة نيتشه، لا نعلم – عندما بنت مشروعاً كانت أكثر أيامه اضطراباً وقلقاً، وأقل أيامه راحة واستقراراً ، مشروعاً دامياً مفجعاً وإن وجد فيه هؤلاء المتعة والشهرة، وأن يكونوا شيئاً مذكوراً على هذه الأرض «التي تستحق الحياة»، ولكن ليس بالتأكيد فيدرالية انعزالية ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها عند المسيحيين خصوصاً واللبنانيين عموماً.

في تلك القرون وإلى اليوم، مشى أناس في هذا الطريق. قيل للماشين: هكذا نعبر طريق الظلام. عندما نتبع هذا النجم الكبير و«الحكيم الكبير»، فإننا سنصل. ولكن منذ أربعين سنة وأكثر، ونحن نسألهم عن هذا الطريق الذي يشبه طريق إيليا أبو ماضي في الضياع والحيرة والاتّباع الأعمى، حين قال: «ولقد أبصرت طريقاً قدامي فمشيتُ\ وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيتُ\ هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيود\ هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود\ أتمنى أنني أدري ولكن لستُ أدري»، أو يشبه رمالاً متحركة لا يصلح المكوث عليها، أو يشبه تلك الأساطير القديمة التي وجدت فرصة لخلق نفسها من جديد، والإجابات جميعها مزيج من الخوف والوهم والفراغ الروحي وعدم الفهم لسنن التاريخ وضرورات الجغرافيا والبحث عن سلطة لم يحدث أن تشكّلت حدودها السياسية والطائفية على نحو مستقر.
ربما تشعر بعض الجماعات في ظروف الحياة المشوّشة بحاجتها إلى الارتباط برجل حديدي، ولكنها مع الوقت ستبدأ تدرك أنّ الرجل الذي أولته قيادة سفينة التايتانك يغذي عجزها ومخاوفها وأوهامها أكثر مما يغذي وعيها بالحقائق وأحاسيسها بالأمان. ربما كانت العلاقة بين «الحكيم» وأتباعه قائمة على الإعجاب ببطل فيلم شاهدوه في الثمانينات، ولكنّه لم يعد نفسه اليوم، ولا قابلية لبناء الدور نفسه الذي لعبه، ولا في إنتاج ظروف العمل نفسها، فيضطرون إلى خلق عالم وهمي كامل يعيشون فيه، ليحيطوا حظهم بشيء من الحيوية والإثارة وإن نتج من هذا السلوك ارتباك نفسي وذهني وانفصال عن أحوال العالم الواقعي الذي أمامهم وتوازناته.
البطل «الحكيم» بدوره لا يتردّد في المشاركة في منافسات خطيرة كبرى لإثبات «رجوع الشيخ إلى صباه». يحاول أن يبني دويلته بألواح خشبية يقيمها في الهواء فتسقط منه، ثم يقيمها مرة أخرى فتسقط منه. وهكذا، كلما مرّت أزمة سياسية أو دستورية تراه يصارع من أجل أن يكون له هذه الدويلة، مستعيناً بأميركا تارة والسعودية أخرى، ويحلف لهما أيماناً غليظة أنّه مستعد أن يطلق خيوله كلها عندما يعطي المراهنون الأمر لصفّارة الانطلاق.
لم يفقد «الحكيم» القدرة على مواصلة الطريق والرغبة في الاستمرار حتى حين تعرضت ميليشياه للحل من قبل سلطة ما بعد الطائف، وحين قاده الشذوذ الفكري والانحراف العسكري إلى السجن. ظن كثيرون أنّه حين أودع زنزانته سيخرج وقد اتسع ذهنه، وتهذّبت أحاسيسه، وتهشّمت «أناه»، وأنّ السجن سيكون بمنزلة فرصة إلهية ليغتسل من وحول الأيام الماضية ويسقي روحه العطشى ماء الإنجيل العذب ومحبة يسوع للناس جميعاً، وأنّ ما جرى خلال الحرب سيراه مجرد ذكريات يرويها الناس عنه وهو خجل من حمولاتها، ولكن لا شيء تغيّر إلا درجة التعلق بالسلطة التي زاد منسوبها حتى رأى أنّ من حقه أن يمنحه الناس امتيازات واسعة.
يعالج الناس مشكلاتهم التي تسببت لهم في التعاسة والشقاوة بالوعي والحكمة العميقة والفهم الصحيح للأشياء، ولكن ما فعله جعجع بنفسه وبرفاقه والسائرين على دربه أشبه بانتحار يتم على مراحل. عندما يتم الهرب من المسيحية الأصيلة والطريق الذي اختاره المسيح لأتباعه إلى الطائفية بأقصى تطرفها، فهذا انتحار. وعندما يتم الهرب من لبنان الرسالة إلى لبنان «الإسرائيليات»، فهذا انتحار. وعندما يتم تبديد الطاقات المسيحية بالأوراق الخضراء أو بالفتن الحمراء والرايات السوداء، فهذا انتحار. وعندما يقفز أمام الكنيسة والكهنة وأمام أهل العقل الذين يريدون لبنان واحداً ويهدد بالانتحار إذا لم يتجاوبوا معه، ثم يقرر في اللحظة الحاسمة أن يؤجل الانتحار، فهذا هوس وطيش يكشف أنّ هذه الشخصية لا تتمتع بالاستقرار النفسي، ولا تعرف لها هدفاً وطنياً، كما أنها لا تبصر أبعد مما حولها.
جعجع الذي استغل مكانته التي لا زالت مقدّسة وهالته التي لا زالت عملاقة بعيون أتباعه، عمل على أن يملأ قلوب محازبيه بالفزع من حزب الله ودعاهم ألّا يترددوا بإلقاء أنفسهم في نار المعركة الحاسمة إذا ما استدعى الواجب ذلك. عجيب. حبذا لو استغل «الحكيم» الدم الباقي في عروقه وعروقهم، وهو دم ثمين، في سبيل هدف وطني إنساني كبير، كالدفاع عن لبنان في وجه التكفيريين مثلاً أو البرابرة الذين يصنعون تلك المحرقة التوراتية في غزة. ولكن المثل يقول إنّ أولئك الذين ينصبون مصيدة لإخوتهم سيقعون فيها حتماً. حتماً سيقع «الحكيم»، إما بمبضع سياساته أو لا مبالاة داعميه الذين ملّوا من الأدوات الفاشلة، كما أنّ خريفهم يتمدد إليه بـ«أمان الله».
الوهم الذي يلحّ عليه لا أرض ميعاد له في لبنان. الهلوسة التي تلاحقه عادة في لحظات الخيبة وفشل التوقعات والتعب المادي هي ثمرة التحالفات مع الشياطين، قديماً مع إسرائيل (كيان الذئاب المجنونة) وحديثاً مع الولايات المتحدة التي شبّه فرانز فانون ساستها بآلهة الإغريق الذين يحملون النار والخراب أينما حلوا. يا «حكيم»، إنّ القرآن يقول «إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً».
فلتصنع ما تراه، وليصنع الله بلبنان ما يراه رحمة ولطفاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى