الراعي برسالة الفصح: لبنان يحتاج إلى قيامة في كيانه وشعبه ومؤسساته
وجّه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رسالة عيد الفصح الثامنة بعنوان “لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟” الى اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا مقيمين ومنتشرين، من كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، في حضور المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والرهبان والراهبات من مختلف الطوائف الكاثوليكية.
وجاء في الرسالة: ” هذه هي رسالة الكنيسة، قبلناها بالمعمودية والميرون، ثم بنعمة الكهنوت والأسقفية وبالنذور الرهبانية.إنها رسالة نشر “طيب” المسيح وهي في جوهرها وطبيعتها رسالة روحية قوامهانشر كلمة الإنجيل وتعليم الكنيسة، وتوزيع نعمة الأسرار لتقديس النفوس، وتكوين الجماعة المؤمنة برباط الروح القدس، روح الحقيقة والمحبة، بهدف تحقيق السر الفصحي في المؤمنين والمؤمنات. فيتحرروا من خطاياهم بنعمة الفداء، ويعبروا إلى الحياة الجديدة بنعمة القيامة، وينعموا بالبنوة لله بالمسيح الإبن الوحيد، وبواسطته يعيشون جمال الأخوة مع جميع الناس. إنهم بذلك يقومون من كل حالة موت روحي أو معنوي أو اجتماعي بقوة “الحي بين الأموات”.
وقال: “في رسالتها الاجتماعية، إنكم، أيها الإخوة السادة المطارنة والرؤساء العامون والرئيسات العامات، والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنون، تدركون بأن الكنيسة، فيما تقوم برسالتها الروحية، لا تستطيع إهمال رسالتها المميزة في المجتمع من أجل تحرير الإنسان من كل ما يعوق نموه البشري، والثقافي والإجتماعي والإنمائي. ولذلك أنشأتم المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز المتخصصة لليتامى والمسنين والمعوقين وذوي الإحتياجات الخاصة والمؤسسات الإجتماعية والخيرية، وسخيتم في سبيلها. وأنتم بذلك تحملون عبئا كبيرا عن الدولة، لأن جميع مؤسساتكم “ذات منفعة عامة”. ولكن، من المؤسف أن الدولة لا تقوم بواجباتها كما يجب ويليق. وتتفاقم مشاكلكم مع الدولة في مدارسكم الكاثوليكية، كما وفي كل المدارس الخاصة من جراء القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرتب والرواتب، وتداعياته. وقد تكلمنا عنه مرارا، وعقدنا بشأنه إجتماعين تربويين موسعين في هذا الصرح البطريركي، في أول شباط الماضي، وفي 24 آذار الجاري”.
تابع الراعي: “باسمكم ومعكم، من أجل حماية التعليم النوعي والثقافة العالية اللذين كونا ثروة لبنان، وحرية الأهل في اختيار المدارس التي يريدونها لأولادهم، نعلن، مع تأكيد كامل مضمون بيان لقاء بكركي التربوي الأخير. أولا، أن المدرسة الخاصة تريد المحافظة على المعلمين وحقوقهم، وعلى الأهل وإمكانياتهم، وعلى التلامذة وتعليمهم النوعي. ثانيا، من أجل هذه الغاية تلتزم المدرسة من جهتها بتطبيق سلسلة الرتب والرواتب بموجب الجدول 17 من القانون 46، على أن تتحمل الدولة تمويل الدرجات الست الاستثنائية، عملا بمبدأ وحدة التشريع والتمويل. فليس بمقدور أية مدرسة أن تتحمل السلسلة والدرجات من دون أن ترفع أقساطها مرغمة بشكل يفوق طاقة المواطنين. وهذا أمر لا تريده على الإطلاق. ثالثا، انطلاقا من هذا التعاون بين المدرسة الخاصة والدولة، فإننا نناضل ونضحي في سبيل حماية النظام التربوي في لبنان من خلال التعليم الخاص. إن كل مدرسة خاصة ولا سيما المجانية منها تضطر، لا سمح الله، على إقفال أبوابها وتشريد طلابها وزج معلميها وموظفيها في آفة البطالة، إنما يتحمل مسؤوليتها كل من مجلس النواب والحكومة، الأول بحكم سلطته التشريعية، والثانية بحكم مسؤوليتها التنفيذية. فإننا نكل هذه القضية الوطنية الخطيرة إلى عناية فخامة رئيس الجمهورية المؤتمن على خير جميع اللبنانيين بحكم الدستور”.
وتابع: “في القيامة لحياة جديدة ولواقع أفضل، لا يمكن الفصل بين موت يسوع وقيامته، لأن منهما ولدت البشرية الجديدة المتمثلة بالكنيسة، جسد المسيح السري، تماما كما تولد السنبلة من حبة الحنطة التي تموت في الأرض.ولذا، لو لم يقم المسيح، لما كانت الكنيسة، ولا كان الإنسان الجديد. هذا ما عبر عنه بولس الرسول بقوله: “لو لم يقم المسيح، لكان تبشيرنا باطلا، وإيمانكم باطلا، وكنتم بعد في خطاياكم”. عالم اليوم كله بحاجة إلى قيامة القلوب، لكي يتقي الله ويستعيد منه المشاعر الإنسانية، من حب ورحمة وحنان، فيلطف بالفقراء والمحرومين، ويعيد المنكوبين والمشردين والمهجرين والنازحين والمخطوفين إلى بلدانهم وبيوتهم وممتلكاتهم، ويوقف الحروب في سوريا والعراق وفلسطين واليمن وسواها من البلدان، ويوطد فيها السلام العادل والشامل والدائم. هذا العالم بحاجة إلى “الحي بين الأموات”، لكي يقوم من موته الروحي والإنساني والسياسي. وطننا لبنان يحتاج إلى قيامة في كيانه وشعبه ومؤسساته كما وفي الممارسة السياسية والإقتصاد. نشكر الله على قيام المؤسسات الدستورية التي تعمل قدر مستطاعها. لكن لبنان يحتاج إلى قيامة من نزيف الكهرباء المتواصل منذ عشرات السنين؛ ومن ديونه المتفاقمة وعجزه المتصاعد، ومن الفساد المستشري في المؤسسات العامة والتهرب الضريبي، ومن الزيادة في الأنفاق بهدر ومن دون حساب، وكثرة التوظيفات من دون إنتاج، وحالة الفقر والحرمان. الأمر الذي ينذر بوضع إقتصادي وإجتماعي ومعيشي صعب يهدد باهتزاز الإستقرار الداخلي”.
وقال: “نتطلع إلى “الحي بين الأموات” القادر على أن يقيمنا من واقعنا المقلق بقوته الفاعلة عبر الإرادات الطيبة، ومن خلال رجال دولة مدركين ومسؤولين ومتجردين. ونأمل أن تأتينا الانتخابات النيابية المقبلة بمثل هؤلاء، بالرغم من المخاطر التي يسببها القانون الانتخابي الجديد على صعيد الديموقراطية والميثاقية اللبنانية والتعايش الوطني، وحرية الترشح وصوت الناخب المحاصرة بخيار النافذين والبلوكات المذهبية والمالية والإعلامية”.
أضاف: “في الحاجة إلى الدولة – الوطن والإصلاح، نحن في زمن أحوج ما يحتاج إليه لبنان فيه، إنما هو خلق الدولة – الوطن التي تؤمن بالتعددية، والتي إليها يتوق شبابنا اللبناني الواعد والواعي، لا الدولة – المذهب التي تناقض الميزة التعددية، وتفرض الأحادية ربما من حيث لا تدري، وتزعزع الوحدة النموذجية. ولذا، ينبغي العمل الجدي على أن ينخفض الشعور والولاء الطائفي والمذهبي تدريجيا، وينمو الشعور والولاء الوطني تصاعديا. الملح اليوم هو إنقاذ الوحدة الوطنية، ومن أجل إنقاذها يجب تقوية الدولة والعمل على إصلاحها وتحريرها وتحييدها وجعلها دولة الحق والعدالة والقانون. إن المؤتمرات الدولية التي تنعقد تباعا في روما وباريس وبروكسل، لعلامة رجاء ترتسم في سماء لبنان، لا سيما وأن الدول التي تنظمها وتشارك فيها وتلتزم بتوصياتها، مشكورة، تبين أنها معنية “بقيامة”لبنان، كي ينعم بالاستقرار الداخلي، والازدهار الاقتصادي، وبقواه المسلحة الدستورية، وكي يتمكن من إنهاض شعبه اللبناني من فقره، ومساعدة الإخوة النازحين إليه واللاجئين، في حاجاتهم الأساسية وتجنيبهم الفقر المدقع، وكي يعمل في الوقت عينه على توحيد الرؤية في مساعدتهم للرجوع إلى أوطانهم، لا سيما وأن لبنان بات مرهقا بالعبء الناتج اقتصاديا واجتماعيا وديموغرافيا. ولكي لا تأتي القروض الدولية، ولو ميسرة، عبئا يزيد من الديون التي ترزح تحتها الخزينة، تشترط هذه المؤتمرات إجراء إصلاحات سياسية وإدارية ومالية وأمنية هي في غاية الضرورة، وأولاها إصلاح الدولة – الوطن”.