
ودّع لبنان امس البابا لاون الرابع عشر، الذي ترك خلفه ساحات امتلأت بقدر نادر من الطمأنينة لايام ثلاثة، ووعودا بالتواصل مع قادة العالم لحل الازمة اللبنانية، حيث فصلت ساعات قليلة بين مشهد سلام، أعاد للبنانيين شيئاً من يقينهم المفقود، وبين عودة ثقيلة إلى واقع سياسي وأمني مفتوح على كل الاحتمالات، على صوت هدير الطائرات الحربية والمسيرات.
فنهاية الزيارة ادخلت معها البلاد في مرحلة جديدة – قديمة من اختبار إرادات القوى السياسية، والجهات الإقليمية والدولية، حيث التقاط الصور وإطلاق المواقف والتصاريح الإيجابية، لن يكونا كافييين لترميم الانقسامات على انواعها، أو لتبريد التوتر العسكري الذي يخيم.
غادر البابا لاون الرابع عشر، تاركا بلدا معلقا بين رجاء وقلق: رجاء بأن تشكل كلماته قوة دفع للاستقرار، وقلق من أن يغيب صوته في ضجة التصعيد السياسي والعسكري المتسارع، حيث يطوي لبنان صفحة الزيارة، ليفتح في المقابل صفحة مشوشة المعالم، تكتب فصولها بين الداخل المنقسم والإقليم المضطرب.
فهل يلتقط لبنان الفرصة الأخيرة قبل أن ينزلق نحو الأسوأ، أم أن المجهول سيغدو عنوان المرحلة المقبلة؟
يوم البابا الثالث والأخير في لبنان
في يومه الثالث والأخير في لبنان، بدأ البابا لاون الرابع عشر نهاره بزيارة دير راهبات الصليب في جلّ الديب، حيث التقى المرضى والمسنّين والمهمّشين، الفئة الأقرب إلى قلبه. في قاعة زيّنتها الورود البيضاء وصورة الطوباوي يعقوب، وجّه رسالة إنسانية لافتة دعا فيها إلى عدم نسيان الضعفاء، مؤكّدًا أنّ «مجتمعًا يتجاهل الفقر والهشاشة يفقد إنسانيّته». وقد بدت لحظة اللقاء مؤثرة، إذ بادل المرضى التراتيل والدموع، فيما شدّد البابا على ضرورة الثبات وعدم فقدان الفرح رغم الألم.
ومن جلّ الديب، انتقل الحبر الأعظم إلى موقع انفجار مرفأ بيروت حيث وقف صلاة صامتة أمام النصب التذكاري، وأشعل شمعة لراحة أرواح الضحايا. عانق أهالي الشهداء واحدًا واحدًا، مستمعًا إلى معاناتهم وغصّاتهم، وحمل معهم عطشهم إلى الحقيقة والعدالة. لحظة بدت كأنها تعيد فتح الجرح، لكنها أيضًا أعادت التذكير بأنّ بيروت لا تزال تنتظر إنصافًا يليق بما خسرته.
المحطة الأوسع جماهيريًا كانت الواجهة البحرية حيث احتشد أكثر من 150 ألف شخص ليشاركوا في القدّاس الاحتفالي الختامي. في عظته، دعا البابا اللبنانيين إلى نزع السلاح من قلوبهم، وإلى حماية حلم لبنان الموحد، قائلاً: «يا لبنان، قم وانهض!». وبعد ثلاث محطات مؤثرة شكّلت ذروة زيارة استثنائية، توجّه البابا إلى مطار بيروت حيث ودّع اللبنانيين بعبارة ستبقى في الذاكرة: «مغادرة هذه الأرض تعني أن أحملكم في قلبي».




