
شكلت الانتخابات التشريعية السورية التي أجريت بالامس، محطة مهمة بالشكل للإعلان عن انتقال سوريا من مرحلة الى أخرى، ولكنها عملياً بقيت من دون نتائج ملموسة او فعلية، واقتصر “الإنجاز” على انه تطور سياسي داخلي جديد يضاف إلى سلسلة التحولات، من دون عوامل حصول تغيير جذري في العديد من الملفات، ومن ضمنها ملف النازحين السوريين في لبنان. فالدولة اللبنانية تستمر في المعاناة جراء الضغط الديموغرافي والاقتصادي والأمني… الهائل، والذي يساهم بشكل كبير في التأثير على استقرارها المترنح، وذلك بسبب الأعداد الكبيرة للنازحين الذين لم يختاروا بعد العودة إلى سوريا. وقد قيل الكثير منذ العام 2011 عن هذا النزوح، وتم تعداد مخاطره وتأثيراته السلبية اللامتناهية، ولكن من دون ان يلقى الامر آذاناً صاغية، حيث كانت الذرائع التي تقدّم اتفه من تكبّد عناء تعدادها.
هذا التراكم البشري يلعب دوراً مدمراً في مسيرة لبنان لاعادة النهوض، ومع انه ليس السبب الوحيد الذي يعيق هذه المسيرة، الا انه يبقى اساسياً ولا يمكن تجاهله. وعلى الرغم من تغير الأوضاع في سوريا مع سقوط نظام بشار الأسد وتغنّي العالم اجمع بالنظام الحالي واغداق الصفات النبيلة عليه من ديمقراطية وحرية ونزاهة…، تظل وتيرة العودة خجولة جداً ومحبطة للجانب اللبناني. ارقام مغادرة النازحين إلى بلادهم لم تتجاوز حتى الآن ربع العدد المتواجد على الأراضي اللبنانية. هذا الرقم المتدني، والذي يتم تداوله بحذر شديد، يؤكد أن العودة الجماعية الواسعة والمخطط لها ليست في الأفق القريب، مما يبقي الأزمة مفتوحة ويطيل من أمد معاناة لبنان الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من ان المضحك المبكي هو مشاركة هؤلاء في الانتخابات، ثم عودتهم الى لبنان!.
وما يعقّد الموقف اللبناني ويزيد من مرارته، هو الإحساس المتزايد بأن الإجراءات الدولية لا تزال على حالها مع تسجيل تقدم في المواقف الإعلامية لا يقدّم ولا يؤخر، يضاف الى الغياب الواضح للرغبة الأميركية والغربية الحقيقية في دفع ملف العودة إلى الأمام بجدية. هذا الواقع ليس مجرد شعور، بل يتجسّد في سياسات واضحة بحيث لم يتم تقديم التحفيز اللازم ولا الدعم الكافي الذي يضمن للنازحين العودة الطوعية والآمنة، أي بضمانات أمنية وإعادة إعمار لمناطقهم تتيح لهم حياة كريمة، فيما الكلام عن أهمية هذه العودة من قبل جميع المسؤولين العرب والأجانب، يملأ صفحات الوسائل الاعلامية على اختلافها.
وما يزيد في الطين بلّة، التناقض الفاضح بين الحديث الدولي عن خطط واستثمارات بملايين ومليارات الدولارات لإعادة إعمار سوريا، وبين عدم تخصيص جزء فعال ومركّز من هذا الدعم لتأمين عودة النازحين وتأهيل مناطقهم لاستقبالهم وتثبيتهم، وهو دليل ملموس على أن الأولوية الدولية لا تنصبّ حالياً على اراحة لبنان من هذا العبء، وهو ما يمكن تفسيره على أهمية إبقاء هذا الملف الإنساني بالشكل، والسياسي بالمضمون، ورقة ضغط دولية وإقليمية على لبنان. فالاستمرار المتعمد لهذا العبء الهائل، يهدف إلى إضعاف الموقف اللبناني على أكثر من صعيد، سواء في المفاوضات الإقليمية أو في قدرته على اتخاذ قرارات سياديّة. ولهذا، من المرجح أن يبقى هذا الملف معلقًا وغير قابل للحل السريع، حتى انجاز تغيير صورة المنطقة ككل، وترتيب توازنات إقليمية جديدة تتناسب مع الرؤى الدولية الأوسع للمستقبل الذي يخطط له كل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمعية ومواكبة من المسؤولين الإسرائيليين في الدرجة الأولى، والمسؤولين الأوروبيين والعرب في الدرجة الثانية.
لم يعد خفياً على احد ان مصير ملف النازحين السوريين في لبنان لن يتحدد بنتائج الانتخابات الداخلية السورية، ولا حتى بتبدّل الأوضاع هناك على أي صعيد كان، ولا حتى بالموقف اللبناني منه، بل هو مرهون فقط بتبدل الإرادة الدولية والإقليميّة التي لا تزال تراوح مكانها حتى تحقيق الأهداف الموضوعة، مهما تطلب الامر من معاناة للبنانيين الذين اعتادوا على مواجهة الصعوبات والمآسي “بالجملة وليس بالمفرق”.




