
جرح أيلول الذي يغور عميقاً في روحنا المشتاقة إلى القائد الباقي في العيون والقلوب والعقول سيداً شهيداً قديساً، هو منهم لأنه ينطق وجعهم وحبهم وتساؤلاتهم ويرفع راية التصدي التي تسكن بيوتهم البسيطة، ويردّد ما يقولون في يومياتهم، هو يشبههم ويحبهم، وكم هي موجعة نبرة صوته التي يستعيدونها في كلّ جزء من شوقهم حين يخاطبهم قائلاً “إني أحبكم”.
سيد شهداء الأمة… كيف لنا أن نردّ جزءاً بسيطاً مما منحتنا في زمنك المشرق بالانتصارات، وكيف لنا أن نستعيد اللحظة التي نلتَ فيها ما تمنيته وقد حاصرنا الخوف، خوف الغياب وأنت أمننا وإصبعك المرفوع سكينتنا وحضورك حرزنا المنسوج على إيقاع الترفع عن زواريب الفتن والداعي لوحدة الوطن…
نستعيد الذكرى ونعاهدك أن نصون هذه البلاد ونجعل من حزننا بندقية، ومن شوقنا قنابل تحرق المعتدي، ومن نبضنا ذخيرة بقاء وثبات على الموقف الذي لا يتبدّل وفق سياسة العرض والطلب وشراء الذمة.. نعاهدك أننا سنبقى هنا بكلّ ما أوتينا من صمود وتاريخ بيروت يشهد وكذلك هضاب الجنوب وبحر الشمال وطيبة أهل تلك المدن والقرى التي احتضنت النازحين في أصعب الأوقات وأشدّها فتكاً، وقلعة بعلبك وسهل البقاع جبهة التصدي المتقدّمة حيث التراب امتزج بدماء الشهداء، وزيتون الكورة ووفاء زغرتا وكلّ ركن من ديرتك التي زادها الحزن صلابة..
أتينا إلى مرقدك نسألك الدعاء، كلّ طفل وشيخ وأم وأخت حمل في قلبه صورتك والقبضات ارتفعت بهتافات لبّيك والدموع تفوّقت على نشاز الحقد من بعض المارقين في ظلمة الزمن والذين سيلفظهم التاريخ ولن يبقي لهم أثراً، غيّهم هباء وحقدهم غباء يرتدّ عليهم.. والناس يا سيد الشهداء باقية لتجدّد الوفاء والبيعة عند كلّ إشراقة شمس والى أن يُكتب لها اللقاء بك على مشارف القدس…
الأطفال وصدق التعبير
يأتي الأطفال حيث يقف الإعلاميون ويطلبون أن نوصل صوتهم ويتكلمون بثقة راسخة بالنصر رغم الحزن، فيقول عباس فاضل إنه موجود حيث يرقد السيد لأنه يحبّه وسيبقى على مسيرته مهما فعل العدو، ويأتي تعبيره عفوياً “جميعنا مقاومة كما علّمنا السيد الذي قدّم لنا باستشهاده الحياة لنكمل المسيرة، وأنا خالي شهيد وبيتنا تضرّر في الجنوب ولكننا لن نخاف وسنواصل وفاء للسيد وكلّ الشهداء”.
أما يوسف حمدان القادم من المريجة سيراً فقال: “نحن هنا منذ التاسعة والنصف صباحاً وأقول للسيد إننا على دربه ونرنو إلى الاستشهاد في سبيل تحرير الأرض، ولا نخاف أحد.
أما أمير صعب إبن ميس الجبل والذي أتى أيضاً سيراً من الضاحية إلى مرقد السيد فأكد لنا أنّ نيته الاستشهاد ولا يخاف العدو لأنه يستمدّ قوته من محبته للسيد”.
عباس قمح فقال بثقة: “هذا البلد بلدنا وهذه الأرض أرضنا، ولن نسلم سلاحنا، وصورة السيد ستنير كلّ مكان وليس صخرة الروشة فقط، شاء من شاء وأبى من أبى، ونحن على العهد ولبّيك يا نصر الله”.
إبن السنوات الخمس الذي لم يقل لنا إسمه يحمل صور السيد قائلا: “أحبّه كثيراً” وهو لا يخاف عدواناً محتملاً حيث كبر هو واخوته قبل الأوان وفهموا أنّ المقاومة حقّ والقائد قدوة على طريق الانتصار، ورغم أنه لم يعرّفنا عن نفسه إلا أنه وافق أن نأخذ له صورة تجمعه بأخوته ووالده هاتفاً: “لبّيك يا نصرالله، إنا على العهد”.
زغرتا الحاضرة على العهد
إيلي الذي استقبل النازحين خلال أيام العدوان، وحمل وجع الفقدان في قلبه، كان حاضراً منذ الصباح عند مرقد السيد، كما كان أيضاً في فعاليات يوم الخميس حين أضيئت صخرة الروشة بصوَر الشهداء، ولعلّ دموعه التي سبقت كلماته..”في هذا المصاب العظيم، مصاب استشهاد سيد الأمة نأتي جميعنا من كلّ الوطن ومن كلّ بقاع الأرض، كي نتحد على محبتك ووقوفك الى جانبنا، لا يمكننا نحن المسيحيين نسيان كلماتك عن السيد المسيح وحبك ودفاعك عن كلّ مسيحي شريف وعن كلّ شبر من الأرض، وأنت الذي لم تميّز يوماً بين أبناء الوطن فكانوا كلهم أبناؤك.. لا أقدر أن أقول في اللحظة إلا إنك ابينا وحبيبنا وعزيزنا وعظيمنا وسيدنا وإنا على العهد ولبيك يا نصرالله، وأنا لا آتي فقط من زغرتا من أخر الدنيا لاتبارك بطيفك، وزغرتا كلها حاضرة هنا بكلّ ما تملك من محبة ووفاء لك ولمسيرتك التي أعزت الأمة فكان انتصارك الذي ستحفظه الأجيال”.
شيب وشباب متمسكون بالسلاح
وأكد الحاج علي زريق القادم من برج البراجنة أنّ شعب المقاومة متمسك بقوته المتمثلة بالسلاح الذي حمى الأمة وحقق الانتصارات، وتساءل حول الوجود الفعلي للدولة التي ينادي جزء منها بتسليم السلاح مختصراً الموقف بعبارات قليلة “نحترم الدولة ولكن حين تتمكّن من حمايتنا يمكنها أن تطالبنا بالتخلي عن سلاحنا”.
ذو الفقار القادم من الليلكي وهو إبن بلدة حدث بعلبك، قال: “حزنت كثيراً لحظة الاستشهاد وشعرت أننا انكسرنا ولكن مع الوقت شعرنا بأننا أصبحنا أقوى لأنّ قائدنا شهيد على طريق الحق والحرية وسنكمل المسيرة على العهد”.
أما محمد ركاب الذي تعود أصول عائلته إلى الجزائر وفق ما قال لنا لكنه إبن الجنوب، فقال: “الشهداء أحياء عند ربهم والسيد لم يزل بيننا ونحن هنا لأننا نحبه ونعاهده البقاء على نهجه المقاوم متمسكين بالسلاح حتى تحرير الأرض”.
استعادة اللحظة…
قبيل انتهاء مراسم إحياء ذكرى استشهاد السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين ورفاقهما الشهداء لم تحتج الحشود الحاضرة إلى توجيه كي تستعيد تلك اللحظة التي غيرت وجه التاريخ والمنطقة، ففي تمام الساعة السادسة وإحدى وعشرون دقيقة كانت الأيدي على القلوب والعيون شاخصة نحو السماء وصوت جامع للناس وهي تخاطب قائدها “إنا على العهد يا نصرالله” وكم هو موجع أن نستعيد تلك اللحظة ويبقى الوجع قوة للمضيّ في مسيرة العزّ حتى النصر أو الشهادة…