أزمة النظام لا تُحل بمجلس طائفي: مقاربة في فكر مسرَّة والأعور
خاص موقع دايلي ليبانون

في ظل تصاعد النقاشات حول إصلاح النظام السياسي اللبناني، يعود كتاب الدكتور هشام الأعور “مجلس الشيوخ ومسألة تطبيقه في لبنان” ليشكّل مرجعًا نادرًا وأصيلًا في مقاربة هذه المسألة الشائكة. لا يكتفي الأعور بتفكيك المفهوم الشائع للطائفية بوصفها قدرًا أو بنية دائمة، بل يذهب أبعد من ذلك نحو مساءلة البنية الفكرية التي ترعى التفكير الدستوري في لبنان. فكتابه ليس مجرّد دراسة تقنية حول إنشاء مجلس الشيوخ، بل محاولة فكرية عميقة للخروج من أسر التصنيفات التقليدية، والانطلاق من مقاصد الدستور وروحه لا من أسْر شعاراته أو تأويلاته المتحيّزة.
من هذا المنطلق، تستند ورقة العمل التي قدّمها البروفسور أنطوان مسرّة حول مجلس الشيوخ إلى أرضية فكرية وضع أساسها هذا الكتاب، وتبني عليها مقاربة نقدية شاملة لكل ما يرتبط بمشروع المجلس في صيغته المتداولة اليوم. بالنسبة لمسرّة، لا يمكن مناقشة أي تعديل أو إضافة على النظام الدستوري اللبناني — بما في ذلك إنشاء مجلس الشيوخ — من دون الإقرار بالحقيقة الجوهرية: الدستور في لبنان معطّل ومُخترق يوميًا. والمشكلة ليست في النصوص، بل في غياب الدولة التي لا تمارس وظيفتها السيادية وفق المعايير الأربعة المعروفة: احتكار القوة، احتكار التمثيل الدبلوماسي، فرض الضرائب، وإدارة السياسات العامة.
بناءً عليه، يرى مسرّة أن الخوض في اقتراحات مثل مجلس الشيوخ، خارج إطار الإصلاح الدستوري الشامل، يُعدّ اجتزاءً خطيرًا يساهم في ترسيخ الطائفية لا تخفيفها. المادة 95 من الدستور حدّدت بوضوح أن المسار نحو إلغاء الطائفية يجب أن يكون مرحليًا ومؤسساتيًا عبر هيئة وطنية، لا عبر مبادرات مجتزأة تزيد من تطييف المؤسسات.
ينطلق مسرّة من التمييز الدقيق الذي أوردته وثيقة الوفاق الوطني – الطائف بين “الثوابت الدستورية” الواردة في مقدمة الدستور، و”الشؤون الإجرائية” التي يمكن تعديلها وفق مقتضيات الزمان والمكان، ومنها مجلس الشيوخ، الذي يُعدّ، في أحسن أحواله، إجراءً تنظيميًا لا مبدأ تأسيسيًا. وبالتالي، فإن التعامل معه كما لو كان جزءًا بنيويًا من النظام السياسي اللبناني يضرب روح الوثيقة والدستور معًا.
أما القول بأن مجلس الشيوخ هو “غرفة ثانية” أو هيئة تشريعية عليا، فهو، في نظر مسرّة، تشويه للمقاصد الأصلية. المجلس المقترح لا يجب أن يكون هيئة تمثيلية تشريعية، لأن في ذلك تكريسًا للطائفية في كل مفاصل الحياة العامة. من الضرائب إلى الإنماء إلى الاقتصاد والإدارة، كل هذه القضايا تُصبح طائفية بمجرد أن تُعرض على مجلس موزّع وفق انتماءات مذهبية، ويُنتخب — كما يقترح البعض — عبر هيئات ناخبة طائفية. هذا التوجّه يشبه، في جوهره، ما سُمّي “المشروع الأورثوذكسي”، الذي يفرز المواطنين سياسيًا وفق طوائفهم، ويعيد إنتاج الطائفية ضمن آليات انتخابية، حتى بين أفراد العائلة الواحدة.
من هنا، يشدد مسرّة على أن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ يجب أن يتم من خلال هيئة ناخبة مصغّرة تمثّل الهيئات الدينية، لا الأحزاب أو القوى السياسية، وأن تُراعى في التعيين معايير صارمة في الكفاءة والخبرة، وليس في الولاء أو الحجم السياسي. والمجلس يجب ألا يُمنح صلاحيات تشريعية، بل دورًا استشاريًا – تنسيقيًا، مستندًا إلى التقاليد الروحية المشتركة التي كان لها دور مركزي في الحفاظ على الوحدة الوطنية خلال فترات الانقسام الكبرى، لا سيما بين 1975 و1990.
ويُحذّر مسرّة من أن أي مقاربة لمجلس الشيوخ خارج منطق المادة 65 من الدستور، التي تضمن التوازن من خلال أكثرية موصوفة في القضايا الأساسية، ستؤدي إلى طغيان فئوي أو إلى عرقلة منهجية للعمل السياسي، عبر استنساخ تجارب أُخرى ذات طبيعة فدرالية أو قومية غير منطبقة على الواقع اللبناني، ما يُنتج اغترابًا ثقافيًا خطيرًا.
كما يرفض مسرّة اعتبار لبنان “نظامًا طائفيًا” بالمعنى البنيوي، ويذكّر بأن الطائفية لم تكن يومًا مفهوماً حقوقيًا صلبًا، بل التباسًا مفهوميًا لا تزال تعاني منه الثقافة السياسية اللبنانية. المادة 95 نفسها تجمع بين مصطلحين: “الطائفية” و”الطائفية السياسية”، ما يُظهر الارتباك في التوصيف، ويستدعي تفكيكًا دقيقًا وليس بناء مؤسسات جديدة على هذا الالتباس.
ينسجم هذا التحليل مع جوهر أطروحة هشام الأعور، الذي أشار إلى أن التعددية في لبنان ليست “تعددية معزولة” كما في المجتمعات القبلية، بل تعددية متداخلة، حيث ينتمي الفرد اللبناني إلى شبكات متعددة تتجاوز الطائفة: عائلية، مهنية، اقتصادية، واجتماعية. لذلك فإن خلق مجلس مبني على أساس طائفي ثابت هو محاولة اصطناعية لفصل لا يمكن تحقيقه إلا بالقسر أو العنف الرمزي، كما جرى خلال الحرب.
ما يطرحه مسرّة ليس رفضًا للمبدأ بحد ذاته، بل تحذيرًا من سوء تطبيقه. فلبنان يمتلك من خلال مادتيه 19 و65 ضمانات دستورية حقيقية للحريات الدينية والتعددية الثقافية، لكنه لا يطبّقها. ومجلس الشيوخ بصيغته المطروحة لا يضيف حماية، بل يُعيد إنتاج أزمة الطائفية داخل المؤسسة الدستورية. ولذلك، يدعو إلى تركيز الجهد على إصلاح فعلي للدستور القائم، لا على إنتاج مؤسسات جديدة تُعمّق الانقسام وتُشتّت الهوية الجامعة.
هكذا تلتقي ورقة البروفسور أنطوان مسرّة مع كتاب هشام الأعور، لا فقط في المضمون، بل في المنهج، في السعي إلى قراءة نقدية عقلانية للنص الدستوري خارج الأوهام السائدة، وفي الانطلاق من الواقع اللبناني بما فيه من تداخل وتعقيد لا يقبل وصفًا ميكانيكيًا أو حلولًا مبتورة. فلبنان، في دستوره، نموذج عالمي في التفكير التعددي، لكنه في تطبيقه نموذج مأزوم في إدارة التنوع. ومجلس الشيوخ، إذا لم يُقارب بمسؤولية فكرية ودستورية عميقة، سيكون مجرّد إضافة إلى مأساة دستورية مفتوحة.