د.هشام الأعور – من جبل العرب إلى جبل لبنان:سلاح الدروز في مرمى الانقسام الإقليمي

تاريخيًا، حمل الدروز السلاح كأداة دفاع عن النفس والوجود، وليس كوسيلة للهيمنة أو التوسع. هذه العقيدة تنبع من طبيعة الطائفة الدينية والسياسية التي تفضّل الانكفاء والانكماش داخل الجغرافيا الجبلية، والاحتماء بالعصبية الداخلية عند اشتداد الأزمات. ومنذ العهد العثماني، لعب الدروز دورًا عسكريًا في مقاومة السلطة المركزية حين شعروا بالتهديد، كما حصل في ثورات الجبل الشهيرة في القرن التاسع عشر. في مرحلة الانتداب الفرنسي، ظهر الوجه السياسي المسلح مجددًا عبر زعماء محليين، لكن بقيت السلاحية في يد العائلات الكبرى كجزء من توازنات داخلية أكثر مما كانت سياسة جماعية للطائفة.
في لبنان، تطورت العلاقة بين الدروز والسلاح بشكل بارز خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حين برز الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط، ومن بعده ابنه وليد، كقوة سياسية وعسكرية محورية للطائفة. تشكلت الميليشيات المسلحة تحت لواء الحزب الاشتراكي، ليس فقط للدفاع عن الجبل، بل للمشاركة في المعادلة اللبنانية الشاملة، وتحوّل الجبل إلى منطقة نفوذ شبه مستقلة. بعد نهاية الحرب باتفاق الطائف، أُدمج جزء من هذه القوى في الجيش اللبناني، ولكن بقي السلاح الخفيف والمتوسط ضمن نطاق بعض القرى والمجموعات القريبة من الحزب التقدمي، مع تغطية سياسية ضمنية من الدولة تحت ذريعة “الدفاع الذاتي” في مرحلة ما بعد الحرب.
رغم تأييد وليد جنبلاط للدولة المركزية نظريًا، إلا أنه لم يتخلَ تمامًا عن الورقة العسكرية. لكنه استخدمها بتكتيك محسوب، وظل يردد أن “السلاح في الجبل لا يُستخدم إلا عند الضرورة”، خصوصًا مع تصاعد قوة حزب الله في الداخل اللبناني. من هنا جاءت خطوة جنبلاط الأخيرة بتسليم سلاح الحزب التقدمي للجيش اللبناني كمبادرة رمزية تهدف إلى إعادة التموضع السياسي، لا سيما بعد أن شعر بأن البيئة الدرزية في سوريا بدأت تتمايز عنه في التوجهات، وأن الأصوات الجديدة – مثل الشيخ حكمت الهجري – تحمل رؤى مغايرة عن الزعامة التقليدية.
في هذا السياق، عبّر رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب عن رفضه الشديد لتسليم السلاح في هذا التوقيت. وهاب، المعروف بخطابه الشعبي التصعيدي، رأى في الخطوة تخلّيًا عن أدوات الحماية الذاتية في لحظة إقليمية دقيقة، مشيرًا إلى أن الدولة نفسها غير قادرة على حماية نفسها، فكيف ستؤمن الحماية لطائفة صغيرة في محيط مضطرب؟ وهاب يمثل خطًا داخل الطائفة يرى أن السلاح ضرورة وجودية وليس فقط سياسية، خاصة أن الذاكرة الجماعية للدروز لا تزال تحتفظ بصور الاضطهادات والتصفية في مراحل مختلفة من التاريخ، سواء في لبنان أو في سوريا.
أما الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل، فيحمل موقفًا أكثر تعقيدًا ومتعدد الأوجه. فعلى صعيد دروز الداخل، هو داعم لسياسة الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة الإسرائيلية، ويدعو إلى مساواة مدنية كاملة تضمن للدروز حقوقهم كمواطنين، دون التخلّي عن خصوصيتهم الدينية والثقافية. أما في ما يتعلق بالدروز خارج إسرائيل، خصوصًا في سوريا، فقد عبّر طريف مرارًا عن قلقه العميق تجاه ما يتعرض له الدروز في جبل العرب من تهديدات مباشرة، خاصة من قبل تنظيم داعش. وقد ناشد المجتمع الدولي مرارًا من أجل حماية الدروز من المجازر، محذرًا من أن تركهم بلا حماية سيؤدي إلى كارثة وجودية للطائفة. ويضع طريف هذا الملف في سياق أوسع يتجاوز الانقسام السياسي، معتبرًا أن “الدروز في كل مكان جزء من النسيج الوطني لدولهم، لكن على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته تجاه جماعة مهدّدة بالإبادة”.
في هذا الإطار، يبرز موقف الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي الأبرز لدروز سوريا، بوصفه صوتًا عاليًا في وجه أي محاولة لنزع السلاح عن الطائفة في هذا التوقيت. الشيخ الهجري الذي اكتسب خلال السنوات الأخيرة شرعية دينية وشعبية واسعة في جبل العرب، عبّر بوضوح عن رفضه لتفكيك أي بنى دفاعية محلية في ظل تهديد تنظيم داعش والفراغ الأمني المتزايد في الجنوب السوري. وقد دعا صراحة إلى التمسك بالسلاح كوسيلة لحماية المجتمع المحلي، محذّرًا من أن التخلي عنه الآن يشبه الانتحار الجماعي. وأكد أن الدولة السورية لم تقدم حتى الآن أي ضمانة فعلية لحماية الجبل وأهله، بل إن غياب الدولة كان من أبرز الأسباب التي دفعت المجتمع الدرزي إلى تنظيم نفسه ذاتيًا خلال السنوات الماضية. دعوته لم تكن فقط رفضًا للتجريد من السلاح، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن أزمة ثقة عميقة مع السلطة المركزية، التي تُتهم بأنها تركت الجبل فريسة للاعتداءات المتكررة دون تدخل حاسم. في ضوء ذلك، أصبح الشيخ الهجري يمثل تيارًا درزيًا واسعًا في سوريا يضع أولوية للبقاء والحماية على أي حسابات سياسية أو تحالفات متبدلة، وهو تيار باتت أصداؤه تتردد حتى في أوساط درزية في لبنان، حيث باتت المعادلة بين السلاح والدولة أكثر إرباكًا من أي وقت مضى.
في ظل هذا المشهد المعقد، يطرح السؤال الملحّ: ما هو مستقبل الدروز في زمن التحولات الجذرية في المنطقة، حيث تنهار الدول أو تضعف، وتصعد التنظيمات الراديكالية العابرة للحدود؟ بعد صعود تنظيم داعش وتنكيله بالطوائف غير السنية، من الإيزيديين إلى المسيحيين والعلويين والدروز، تعمّق لدى أبناء الطائفة الشعور بأن النظام الإقليمي لم يعد يوفّر أي ضمانة لسلامة الأقليات. سوريا، التي كانت الدولة المركزية فيها تشكّل نوعًا من الحماية الرمزية للدروز، باتت اليوم ساحة ممزقة يتنازعها النفوذ الإيراني والروسي والتركي، بينما الحدود مع الأردن وفلسطين المحتلة أصبحت منافذ هشّة أمام تهديدات غير تقليدية. في لبنان، لا يختلف الوضع كثيرًا، حيث يواجه البلد تهديدًا مزدوجًا: من جهة تصاعد الخطر التكفيري المتسلل من بيئة أزمات المنطقة، ومن جهة أخرى ضغط إسرائيلي دائم على حدوده الجنوبية. في ظل هذا الواقع، يشعر الدروز بأنهم مجبرون على التوازن بين التسلح المحدود للحماية، والانخراط في الدولة منعًا للعزلة أو التصادم. ومع غياب ضمانة حقيقية من أي محور إقليمي أو دولي، يبقى مصير الدروز معلّقًا بين حكمة زعاماتهم المحلية وقدرتهم على المناورة، وبين موجات التحولات الجارفة التي لا تفرّق كثيرًا بين جماعة وأخرى في لحظة الانهيار الكبير.