اخبار محليةالرئيسيةخاص دايلي ليبانون

د. هشام الأعور – من 1982 إلى اليوم: لماذا يكرر جنبلاط درس الهزيمة؟

في لحظة مفصلية من تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، يعود وليد جنبلاط مجددًا ليُطل بموقفٍ يُثير الريبة والدهشة، لا لأنه مفاجئ، بل لأنه يأتي من رجل يُفترض أنه عايش التجربة الوطنية بكل تحوّلاتها ومفاصلها. تصريحاته الأخيرة التي تدعو إلى نزع سلاح المقاومة والتخلي عن مزارع شبعا، بدعوى “قطع الطريق على أي مبرر لبقاء السلاح”، لا تبدو معزولة عن سياق الضغوط الأميركية المتواصلة، التي يحملها المبعوثون الدوليون—ومن بينهم آموس هوكستين وأخيرا باراك—كأجندة جاهزة لتطبيقها على ما تبقى من السيادة اللبنانية.

اللافت في موقف جنبلاط، ليس فقط انجراره إلى خطاب الهزيمة والتسليم، بل محاولته تقديم هذا الخطاب بوصفه حكمة سياسية وقراءة واقعية لما يجري، تمامًا كما فعل في صيف 1982. يومها، بعد الاجتياح الإسرائيلي وانتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية تحت حراب الاحتلال، خرج جنبلاط بوجه شاحب وصوت متهدج يودّع ابنه “تيمور في الأردن”، معلنًا انسحابه من الحياة السياسية. لكن الزمن لم يلبث أن كذّب نبوءته تلك، فظهر أن الهزيمة لم تكن قدرًا، بل مرحلة عابرة في مسار مقاومة صاعدة.

بعد اغتيال الجميل وتأسيس “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”، بدأت ملامح الرد الوطني تتشكل، لا من غرف الفنادق ولا من شاشات التلفزة، بل من الأزقة والجبال والمخيمات، حيث كتب المقاومون أسماءهم بدمهم. وليد جنبلاط، الذي فشل يومها في التقاط هذه الإشارات رغم ادعائه امتلاك “أنتينات” سياسية حساسة، عاد لاحقًا ليركب موجة التحول ويقود انتفاضة الجبل ضد مشروع “لبنان الإسرائيلي” الذي كانت القوات اللبنانية رأس حربته. ساهم في إسقاط اتفاق 17 أيار، ولكن بعد أن فاته أن يكون جزءًا من الفعل التأسيسي المقاوم.

اليوم، يعود الرجل نفسه ليُعيد استحضار خطاب الانكفاء، لكن هذه المرة بلغة مختلفة لا تقل استسلامًا، بل تبدو أكثر التصاقًا بإملاءات الخارج الأميركي. يسوّق لفكرة نهاية مرحلة المقاومة، وتحويلها إلى مجرد “ذكرى” عاطفية نحتفل بها، لا إلى فعل مستمر تفرضه وقائع الصراع المفتوح مع إسرائيل. يتناسى أن المقاومة، ليست خيارًا ترفيًّا، بل ضرورة تفرضها جغرافيا العدو القابع عند حدودنا، وطبيعة مشروعه الذي لم يتغيّر لا بعد 1982 ولا بعد 2006 بل ازداد تطرفًا وتوسعيًّا في 2025.

ما يقترحه جنبلاط ليس إعادة تقييم لتجربة، بل انقلاب على سردية وطنية دُفعت أثمانها غالية. هو لا يطلب فقط إنهاء المقاومة المسلحة، بل يسعى إلى ضرب منطلقها الوطني عبر التشكيك بمزارع شبعا ولبنانيتها، وكأن الاحتلال لم يعد موجودًا، أو كأن مقاومته تقتصر على حدود جغرافية ضيقة. وهو بذلك يعيد إنتاج المنطق نفسه الذي حملته وثيقة 17 أيار، ولكن بلغة مُموّهة وحديث ناعم عن “سلام” مستحيل مع كيان يستبيح غزة يوميًا، ويعدّ العدّة لاجتياح جنوب لبنان مرة أخرى.

إذا كانت “أنتينات” جنبلاط السياسية قد تعطلت سابقًا عن التقاط إشارات التحول الوطني، فعذرنا يومها أنه كان تحت تأثير الصدمة. أما اليوم، فلا عذر لمن يكرر الخطأ نفسه بعد أن خبر كل تجارب التحولات في لبنان والمنطقة. فإما أن يكون هذا “العطل الفني” مقصودًا، أو أن الموجة التي اختار أن يستقبلها هذه المرة هي موجة الانكسار الأميركي–الإسرائيلي الذي يسعى إلى استباق الهزيمة بتحييد البيئة اللبنانية المقاومة.

التاريخ لا يرحم من يخطئ مرّتين في الاتجاه نفسه. والأوطان لا تُبنى على يد المرتابين، بل على أكتاف من يراهنون على أن جذوة المقاومة لا تنطفئ، لأن الصراع لم ينتهِ، والمحتل لم يرحل، والخطر لم يزُل. وعلى من يريد مغادرة مشهد الصراع، أن يفعل ذلك بهدوء، لا أن يحاول جرّ الآخرين معه إلى حافة الاستسلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى