الرئيسيةمجتمع ومنوعات

عمال النظافة اللبنانيون يرفضون أن يكونوا ضحايا بلا صوت!

شربل صفير - نداء الوطن

في قلب الفوضى المتصاعدة وانهيار كل نظم النظافة، تتحول شوارع لبنان إلى مكبات نفايات مفتوحة تعج بالقمامة والروائح الكريهة، بخاصة في موسم الصيف حيث تتكاثر الكوارث مع توافد السيّاح.

وسط هذا الخراب البيئي، يُترك عمال النظافة في معركة وحيدة بلا دروع، يعانون الإهمال الرسمي وجحود المجتمع، بينما تتحول صحتنا وبيئتنا إلى رهينة إهمال قاتل. هؤلاء العمال، أبطال مظلومون، يحملون على أكتافهم عبء وطن يغرق في القمامة وصمتًا قاتلًا يهدّد حياة كل لبناني.

 

أبطال غير مرئيين

في صلب كل شارع وزقاق في لبنان، يقف جنود مجهولون، يقاتلون بلا هوادة على جبهات النظافة التي تغرق فيها مدننا. هم عمال النظافة، الذين يُحاربون وحيدين في معركة ضارية ضد القمامة والتلوث، بينما يعمّ الصمت الرسمي والشعبي على وجودهم وكأنهم بلا حقوق ولا كرامة.

 

وسط أكوام القاذورات التي تخنق الشوارع، وتحت لهيب شمس الصيف اللاهبة ورطوبة الشتاء القاتلة، ينهمك هؤلاء الأبطال في عمل لا ينتهي. يدفعون ثمناً باهظاً من صحتهم وأرواحهم، لكن لا أحد يرى تعبهم، ولا يشعر بمعاناتهم. أدوات الحماية؟ نادرة أو معدومة. الرعاية الطبية؟ حلم بعيد. والتقدير؟ كلمة غائبة من قاموس المجتمع الذي يتجاهلهم بكل قسوة.

 

في هذا السياق، تعود بنا كلمات الزعيم مارتن لوثر كينغ إلى صدى أعمق، إذ قال في خطابه الأخير لدعم عمال النظافة في ممفيس: “إذا لم أستطع مساعدة عمال النظافة، فما الذي يمكنني فعله؟”.

 

وأضاف: “يجب أن يكون العمل الذي تقومون به عظيمًا. إذا كان عليك أن تكون كاسحًا، فكن كاسحًا مثل مايكل أنجلو أو بيتهوفن أو شكسبير. كن كاسحًا لدرجة أن جميع سكان السماء والأرض يتوقفون ليقولوا: هنا عاش عامل نظافة عظيم قام بعمله بشكل جيد”.

 

أصوات من الميدان

خالد، عامل نظافة في بيروت منذ أكثر من عشر سنوات، يروي لـ”نداء الوطن”: “نقضي ساعات طويلة تحت حرارة الشمس الحارقة أو برد الشتاء القارس، ونتعامل يومياً مع أكوام القمامة والروائح الكريهة، ومع ذلك لا يشعر الناس بتعبنا ولا يقدرون جهودنا. كثيرًا ما نُهمل من الجهات الرسمية ولا نحصل على أي دعم ملموس. نعمل أحيانًا دون توفّر معدات السلامة الأساسية، ما يعرض صحتنا وحياة عائلاتنا للخطر. كل ما نطلبه هو أن يُعاملنا المجتمع والسلطات بكرامة وأن يُعطونا صوتًا مسموعاً”.

 

أما سلمى، امرأة تعمل في جمع النفايات في إحدى ضواحي بيروت، فتشرح لـ”نداء الوطن”: “العمل الذي أقوم به شاق جدًا، ونادرًا ما يتوقع الناس أن امرأة تقوم بهذا الدور. أحيانًاً أتعرض لكلمات جارحة ونظرات احتقار، لكنني أواصل العمل من أجل إعالة عائلتي. نحتاج إلى دعم حقيقي لا يقتصر على الجانب المالي فقط، بل يشمل الاحترام والتقدير لجهودنا اليومية”.

 

محمد، شاب يعمل في شركة خاصة لإدارة النفايات، يؤكد بدوره لـ “نداء الوطن”: “جمع القمامة عملٌ صعب وخطر، وغالبًا ما نواجه مخاطر صحية جسيمة. غياب التأمين الصحي يزيد الأمور تعقيدًا، ونضطر أحيانًا للعمل في ظروف غير إنسانية ودون توقف. أملنا أن تولي السلطات اهتمامًا أكبر لوضعنا، وتعمل على توفير الحماية والدعم اللازمين لعمال النظافة الذين يحافظون على نظافة مدننا”.

 

النتائج: أزمة بيئية وصحية متفاقمة

تُظهر الإحصائيات أن لبنان يُنتج يومياً حوالى 6,500 طن من النفايات الصلبة البلدية، أي ما يعادل 2.37 مليون طن سنوياً. ورغم هذه الكميات الضخمة، فإن أقل من 8 % فقط من النفايات المنزلية تتم معالجتها بشكل سليم، بينما يُلقى أكثر من 40 % منها في مكبات عشوائية مفتوحة.

 

تتكون النفايات في لبنان من 52.5 % مواد عضوية، 16 % ورق وكرتون، 11.5 % بلاستيك، 5.5 % معادن، 3.5 % زجاج، و11 % مواد غير قابلة لإعادة التدوير.

 

وتُظهر الدراسات أن 82 % من النفايات البحرية في لبنان مصدرها البر، وتشمل المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد مثل أغطية الزجاجات، أكواب الشرب، أعقاب السجائر، وأغطية المشروبات.

 

في ما يتعلق بالنفايات الإلكترونية، تشير التقارير إلى أن لبنان أنتج 46,000 طن من النفايات الإلكترونية في عام 2021، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 74,529 طنًا بحلول عام 2040.

 

هذه الأرقام تكشف حجم الأزمة البيئية والصحية التي يعاني منها لبنان، إذ لا تقتصر مشكلة تراكم القمامة على منظر مزعج أو روائح كريهة، بل تخلق بيئة مثالية لتكاثر الحشرات والقوارض التي تنقل الأمراض المعدية مثل التيفوئيد والتهاب الكبد وحمى الضنك. كما تسبّب انسداد المجاري المائية ما يؤدي إلى فيضانات وتلوث مصادر المياه، فضلًا عن اندلاع حرائق في مكبات النفايات تطلق أبخرة سامة تهدد الجهاز التنفسي، خاصة للأطفال وكبار السن.

 

كل هذه العوامل تشكل ضغطًا هائلًا على النظام الصحي اللبناني، الذي يعاني بدوره من أزمات متراكمة، ويزيد من معاناة السكان الذين يعيشون في بيئة ملوثة تهدّد صحتهم وسلامتهم. وفي الوقت نفسه، يعمل عمال النظافة وسط هذه الظروف الخطيرة من دون حماية كافية، ما يعرض حياتهم للخطر المستمر.

 

صمت رسمي… وتجاهل شعبي

على الرغم من الأزمات المتعددة التي يمر بها لبنان، لم تضع السلطة في أولوياتها تحسين أوضاع عمال النظافة. لا قوانين تحميهم، لا رواتب عادلة، ولا تعويضات صحيّة. بل الأدهى أن المجتمع نفسه، في كثير من الأحيان، يعاملهم كأجسام غير مرئية، ويرمي القمامة بشكل عشوائي، مما يزيد من معاناتهم. صمت المجتمع هو استمرارية لإهمال رسمي، وتحول إلى جرح مفتوح في جسم المدينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى