د. هشام الأعور – “فن الصفقة” و”قوة التفاوض” : مقارنة في الرؤية والمنهج بين ترامب وعرقجي

يُعد كتاب “فن الصفقة” (1987) لدونالد ترامب واحدًا من أكثر الكتب شهرة في مجال التفاوض داخل أدبيات عالم الأعمال، بينما يمثل كتاب “قوة التفاوض” (2025) للدبلوماسي الإيراني عباس عرقجي مساهمة نوعية من عالم السياسة والدبلوماسية في الحقل ذاته. ورغم أن كلاً من المؤلفين ينتمي إلى مجال مختلف – ترامب إلى قطاع الأعمال وعرقجي إلى الساحة الدبلوماسية – فإن المقارنة بين الكتابين تكشف عن تباينات جوهرية في الرؤية والمنهج، كما تسلط الضوء على تأثير الخلفية الثقافية في تشكيل استراتيجيات التفاوض لدى كل منهما.
المنهج والمحتوى: من الصفقات إلى السياسات
يعتمد كتاب “فن الصفقة” على أسلوب سردي جذاب، يتناول فيه ترامب أبرز المواقف التي خاضها في مسيرته المهنية، ليبني من خلالها رؤيته الخاصة للتفاوض. لا يتبع الكتاب منهجًا أكاديميًا أو تصنيفيًا، بل يركز على نصائح عملية تتمحور حول فكرة أن الثقة بالنفس، والحدس التجاري، وعدم الخوف من المخاطرة هي أدوات أساسية لتحقيق النجاح. التفاوض هنا يُفهم كـ مواجهة ذكية لتحقيق الهيمنة على الصفقة، حيث يُفضل ترامب خلق حالة من الغموض والتفوق النفسي لإرباك الطرف الآخر.
في المقابل، يتسم كتاب “قوة التفاوض” ببنية أكاديمية منظمة، إذ يبدأ بتعريف التفاوض السياسي، ويصنف أنواعه (ثنائي، متعدد الأطراف، تقني، استراتيجي…)، قبل أن ينتقل إلى خصائص المفاوض الناجح وأدواره. يدمج عرقجي بين الإطار النظري والخبرة الواقعية، ويوضح أن التفاوض السياسي يتطلب فهمًا دقيقًا للبيئة الجيوسياسية، والتوازن بين المبادئ والسياسات. بخلاف ترامب، لا يسعى عرقجي إلى فرض الإرادة، بل إلى بناء اتفاق مستدام يعكس المصالح الوطنية ضمن حدود المعقولية والشرعية الدولية.
الثقافة والاستراتيجية: الفرد مقابل المنظومة
الاختلاف في الخلفية الثقافية يتجلى بوضوح في طبيعة الاستراتيجيات التفاوضية التي يعرضها كل من ترامب وعرقجي. ترامب يمثل العقلية الأميركية الليبرالية المتأثرة بالرأسمالية التنافسية، حيث يُنظر إلى التفاوض كمعركة يجب أن يُخرج منها طرف منتصر. لذلك، يركز ترامب على المظاهر، التوقيت، وحتى استخدام الإعلام كأداة ضغط تفاوضي. هذه المقاربة تجعل من التفاوض ساحة للعرض الشخصي، وتفترض أن الطرف الأقوى اقتصاديًا ونفسيًا يملك الكلمة الأخيرة.
أما عباس عرقجي، فيأتي من ثقافة سياسية متجذرة في العمل الجماعي والمقاومة الدبلوماسية. التفاوض بالنسبة له ليس وسيلة لفرض الذات، بل أداة لتحقيق أهداف طويلة المدى من خلال الصبر، والدقة، والانضباط الذهني. في كثير من المواضع، يبرز عرقجي أهمية فهم الطرف الآخر ثقافيًا وسياسيًا، ويؤمن بأن معرفة الخلفية الفكرية والسياسية للمفاوض المقابل تساعد على بناء خطاب تفاوضي أكثر فاعلية. هنا تتحول المرونة والاحترام المتبادل إلى عناصر حاسمة في نجاح التفاوض.
الأبعاد الاقتصادية الضمنية
في “فن الصفقة”، لا ينفصل الاقتصاد عن التفاوض، بل هو في صلبه. يسعى ترامب إلى الربح كهدف مباشر، ويعتبر أن كل تفاوض يجب أن ينتهي بنتيجة مالية ملموسة ومربحة. من هذا المنطلق، تصبح المهارات النفسية، مثل قراءة تعبيرات الوجه ولغة الجسد، أدوات تُستخدم لضمان شروط مالية أفضل. الاقتصاد هنا ليس مجرد خلفية، بل الساحة الرئيسية للمواجهة.
أما في كتاب “قوة التفاوض”، فيُقدم الاقتصاد كعنصر ضمني في المشهد السياسي. فعلى الرغم من أن التفاوض السياسي لا يهدف بشكل مباشر إلى الربح، إلا أن نتائجه قد تؤدي إلى تغيير جذري في المعادلة الاقتصادية، مثل رفع العقوبات أو تعزيز التعاون التجاري. يشير عرقجي في مواضع متعددة إلى أن النجاح السياسي في التفاوض قد يفتح الباب أمام إنعاش الاقتصاد الوطني، ما يؤكد على العلاقة المتبادلة بين السياسة والاقتصاد في التفاوض الدولي.
نماذج تطبيقية: الدرس من الواقع
يركز ترامب في كتابه على عدد من القصص الواقعية، مثل مفاوضاته لبناء فندق “غراند حياة” في نيويورك، أو مفاوضته لشراء كازينو في أتلانتيك سيتي. هذه النماذج ليست فقط لتوضيح تقنياته، بل أيضًا لإبراز شخصيته كمفاوض لا يتراجع. يوظف التهديد بالانسحاب، والمبالغة أحيانًا، ويُظهر قدرة على إعادة تشكيل قواعد اللعبة لصالحه.
بالمقابل، يتحدث عباس عرقجي عن مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني، وخصوصًا مرحلة ما بعد خطة العمل المشتركة لعام 2015، وكيف واجه المراوغات الغربية والضغوط الإعلامية. يصف عرقجي تفاصيل دقيقة، مثل اختيار لغة البيان الختامي، ومدى تأثير الكلمات في تشكيل التصور الدولي. هذه الأمثلة تسلط الضوء على الدقة والتوازن والانتباه إلى التفاصيل الرمزية التي تميز التفاوض الدبلوماسي.
خاتمة : دروس في التفاوض من الشرق والغرب
في نهاية هذا التحليل، يظهر بوضوح أن التفاوض ليس مجرد مهارة تقنية تُمارس بمعزل عن السياق، بل هو فن يتأثر بالثقافة، والهوية، والهدف، والمجال الذي يُمارس فيه. لقد قدّم ترامب من خلال “فن الصفقة” رؤية أميركية فردية ترتكز على الجرأة والمبادرة والهيمنة، فيما قدّم عرقجي من خلال “قوة التفاوض” منظورًا شرق أوسطيًا يعكس التعقيد السياسي والبعد الجماعي والتوازن الاستراتيجي.
تُظهر المقارنة أن النموذج التجاري الذي يعتمد على الحسم والربح السريع قد لا يكون مناسبًا في الساحات السياسية، كما أن النموذج الدبلوماسي الذي يتطلب التدرّج والبناء المتراكم قد لا يفي بالغرض في الأسواق التي تتطلب قرارات فورية ومخاطرة محسوبة.
ومن هنا، فإن الدرس الأهم لأي مفاوض معاصر هو ضرورة الوعي بالسياق، وتكييف الأدوات التفاوضية بحسب طبيعة الموقف، بدلاً من تبنّي نمط واحد ثابت. التفاوض في عالم اليوم – سواء كان في السياسة، أو الاقتصاد، أو العلاقات الدولية – يحتاج إلى مزيج من الصرامة والمرونة، ومن الرؤية الاستراتيجية والفهم الثقافي.
إن الكتابين، كلٌ بطريقته، يُقدّمان مصادر قيّمة للممارسين والمهتمين بالتفاوض، ويُثبتان أن النجاح في التفاوض لا يعتمد فقط على القوة، بل على الفهم العميق للناس، والمصالح، والتوقيت.