د. هشام الأعور – ميلاد خوري… حين يصبح الغياب جسراً للعيش الواحد

في بلدة قرنايل، التي لطالما كانت نموذجًا نادرًا عن العيش الواحد بين الدروز والمسيحيين، لن يكون القدّاس عن راحة نفس ميلاد نعوم خوري يوم السبت في 21 حزيران/يونيو عند الساعة الثالثة بعد الظهر في كنيسة مار الياس قرنايل مجرّد طقس ديني أو ذكرى لشخص غاب قسرًا منذ ستة وثلاثين عامًا… بل هو صلاة وطنية، إنسانية، اجتماعية، سياسية بامتياز.
قرنايل، البلدة التي تجاوزت الطائفية قبل أن تُصبح شعارًا في البيانات، تقف في هذا اليوم الجامع – دروزًا ومسيحيين – كتفًا إلى كتف، لا لتبكي شهيدًا فقط، بل لتقول: نحن معًا، في الألم كما في الرجاء.
في الحرب، كانت الحقيقة ممزقة. سقط فيها الأبرياء بصمت، خُطفوا، غُيّبوا، صُفّوا دون محاكمة، دون محاسبة. كان ميلاد أحدهم. شاب من أبناء البلدة، اختفى فجأة، في زمن لم يكن فيه للحق صوت، ولا للعدالة طريق.
تم استدراجه إلى لقاء، فكان اللقاء فخًا. اغتيل بدمٍ بارد، لا لذنب اقترفه، بل لأن الحرب كانت تقطف الأرواح بلا سؤال. ستة وثلاثون عامًا مرّت، لم تعرف فيها العائلة جوابًا، لم تجد فيها ما يروي غصّة الزوجة، أو يُسكّن وجع الأبناء، أو يُطفئ دمعة أمٍ قضت عمرها تنتظر عودة لن تأتي.
لكن قرنايل لم تنسه. ولم ينسَ جيرانه من طوائف أخرى ما تعنيه خسارته. لأن في هذه البلدة، لم يكن الانتماء الطائفي هوية، بل كانت العشرة، والجيرة، والخبز والملح، أقوى من كل التقسيمات.
اليوم، لا يُرفع اسم ميلاد خوري كشاهد على الألم فقط، بل كرمز لمعركة العيش الواحد . معركة لا تُخاض بالسلاح، بل بالوعي، والعدالة، وبالتمسّك ببعضنا البعض، فوق كل جراح التاريخ.
أن يتحوّل المفقود إلى قضية وطنية، فذلك انتصار. أن يتحوّل الغياب إلى جسر لقاء، لا فاصل حقد، فذلك فعل شجاعة. وأن يتحدّ أبناء قرنايل – مسيحيين ودروز – حول صلاة، فذلك إعلان واضح أن هذه الأرض تعرف كيف تصنع سلامها، حتى من وسط الرماد.
في وطنٍ مزّقته الطائفية، تبقى قصص الشهداء المجهولين، والمفقودين، أكثر صدقًا من كل الخطب. هي تنبّهنا إلى أنّ الماضي لم ينتهِ، لكنه لا يجب أن يُستعاد. وأن المصالحة ليست توقيعًا في وثيقة، بل لحظة وعيٍ جماعي، كما سيكون عنوان هذا القداس.
في يوم ميلاد خوري، تنحني السياسة أمام الأخلاق، وتُعلن قرنايل، مرة جديدة، أن التعدد لا يُخيف، بل يُغني. وأنها باقية كما كانت: بلدة العيش الواحد، رغم الألم، ورغم الغياب.