د. هشام الأعور – القانون الدولي الإنساني والهجمات السيبرانية: قراءة في ضوء المواجهة بين إيران و”إسرائيل”

أدى التحول التكنولوجي في القرن الحادي والعشرين إلى بروز الفضاء السيبراني كساحة جديدة من ساحات النزاع والصراع بين الدول، بل وأصبح يشكل بُعدًا مركزيًا في المواجهات السياسية والعسكرية الحديثة. في هذا السياق، أثارت الهجمات السيبرانية، بصفتها وسائل جديدة للعدوان أو الدفاع، تساؤلات جوهرية حول مدى خضوعها للقانون الدولي الإنساني، خاصةً في ظل طبيعتها غير التقليدية. إذ لم تعد النزاعات تقتصر على الجيوش والأسلحة، بل أصبحت تمتد إلى الكودات البرمجية والخوادم، ويُدار بعضها من غرف تحكم بعيدة وآمنة. ويتجلى هذا التحدي بوضوح في الصراع السيبراني الدائر بين إيران وإسرائيل، والذي يُعد من أبرز الأمثلة على هذا النوع من المواجهات.
شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في تبادل الهجمات السيبرانية بين طهران وتل أبيب، حيث استخدم كلا الطرفين الفضاء الرقمي كأداة ضغط استراتيجية ووسيلة لإضعاف الخصم دون خوض مواجهة عسكرية مباشرة. في عام 2010، تم الكشف عن فيروس “ستاكس نت” الذي استهدف منشآت نووية إيرانية، ويُعتقد أنه نتاج تعاون إسرائيلي-أميركي. وقد عطّل هذا الهجوم آلاف أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز، ما عُدّ حينها أول هجوم سيبراني يُحدث ضررًا ماديًا واضحًا على منشأة عسكرية حساسة. في المقابل، اتُهمت إيران بشن هجمات إلكترونية استهدفت بنى تحتية إسرائيلية مدنية، بما في ذلك محطات مياه وأنظمة صرف صحي، فضلاً عن حملات لاختراق شركات نقل ومؤسسات طبية.
تطرح هذه المواجهات السيبرانية إشكالات قانونية عميقة حول مدى انطباق القانون الدولي الإنساني عليها. فمن جهة، يعتبر هذا القانون – الذي يرتكز على مبادئ التمييز، التناسب، والضرورة العسكرية – المرجعية الأساسية لتنظيم سلوك أطراف النزاع في زمن الحرب. إلا أن الطبيعة غير المادية للهجمات السيبرانية، وغياب آثارها الفورية والواضحة في بعض الأحيان، تثير شكوكًا حول إمكانية تكييفها ضمن الأعمال العدائية التقليدية. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن تقييم هجوم رقمي يعطّل نظامًا طبيًا أو شبكة مياه؟ هل يُعتبر ذلك “عملاً عدائيًا” بالمعنى القانوني؟ وهل يُعد استهداف منشأة مدنية رقمية خرقًا لمبدأ التمييز، كما هو الحال في استهداف مستشفى أو مدرسة في النزاعات التقليدية؟
في الحالة الإيرانية-الإسرائيلية، يتضح أن العديد من الهجمات السيبرانية التي تبادلها الطرفان أثارت إشكالات تتعلق بمدى احترام قواعد القانون الدولي الإنساني. فالهجوم على منشآت نطنز النووية الذي استهدف بنية تحتية ذات طابع مدني استراتيجيَ، واجهه بالمقابل هجمات لاحقة على منشآت مدنية في إسرائيل، كأنظمة المياه، الأمر الذي يُثير قلقًا كبيرًا بشأن عدم التزام مبدأ التمييز وحماية الأعيان المدنية. ووفقًا لما تقرّه اتفاقيات جنيف، لا يجوز بأي حال من الأحوال توجيه الهجمات إلى المدنيين أو البنى التحتية التي يعتمدون عليها للبقاء.
كما أن مبدأ التناسب، الذي يُحظر بموجبه تنفيذ هجمات قد تُسبب أضرارًا مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية المرجوة، يواجه صعوبات تطبيقية كبيرة في البيئة السيبرانية. فغالبًا ما يصعب التنبؤ بالآثار الجانبية لهجوم إلكتروني، وقد تنتشر برمجية خبيثة خارج نطاق الهدف الأصلي، مُسببة أضرارًا غير مقصودة لدول أو جهات محايدة. وتُعد هذه المخاطر مضاعفة في ظل غياب قدرة مؤكدة على التتبع الدقيق للمصدر الفاعل، مما يُعقد عملية تحديد المسؤولية القانونية.
من الناحية السياسية، يعكس هذا النزاع السيبراني مدى هشاشة النظام الدولي الحالي في تنظيم استخدام الفضاء الرقمي كساحة حرب. فبينما تفتقر الأمم المتحدة حتى الآن إلى إطار قانوني ملزم ومحدد لتنظيم الأعمال العدائية في الفضاء السيبراني، تظل الجهود القائمة – مثل “دليل تالين” الذي أعده خبراء دوليون لتفسير تطبيق القانون الدولي على العمليات السيبرانية – ذات طابع غير ملزم وغير كافٍ. فعدم وجود آليات عقابية واضحة أو قدرة فعالة على تتبع المسؤولين عن الهجمات السيبرانية يمنح الدول هامشًا واسعًا للإنكار والمناورة القانونية، مما يُضعف فعالية القانون الدولي الإنساني في هذا المجال.
وبناءً على ما سبق، تبرز الحاجة الملحة إلى تطوير أطر قانونية دولية أكثر وضوحًا وصرامة للتعامل مع النزاعات السيبرانية، تضع معايير دقيقة لتعريف “الهجوم السيبراني” وتُحدد نطاق الأعيان المحمية رقميًا، وتُطور أدوات تقنية لتتبع المسؤوليات، وتُؤسس لنظام رقابة دولي قادر على المساءلة. فلا يمكن للمجتمع الدولي أن يغض الطرف عن اتساع نطاق هذه الحرب الخفية التي قد تؤدي إلى عواقب إنسانية وخيمة دون أن تُحدث أي صوت أو دمار مادي مرئي.
في النهاية، فإن الحرب السيبرانية بين إيران وإسرائيل ليست فقط ساحة مواجهة تقنية، بل هي اختبار حقيقي لقدرة القانون الدولي، وخاصة القانون الدولي الإنساني، على مواكبة تحولات العصر الرقمي، وحماية المدنيين من أشكال العنف غير التقليدية التي تتسلل إلى حياتهم اليومية بصمت.