
انتهى استحقاق الانتخابات البلدية في جبل لبنان بالنسبة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي بنتائج جيدة وبأقل الخسائر الممكنة، بعدما أعلن النائب السابق وليد جنبلاط، ومثله رئيس الحزب النائب تيمور جنبلاط، عدم التدخل في الانتخابات.
وإذا كانت لجنبلاط الأب أسباب كثيرة تدفعه إلى الابتعاد عن الانتخابات البلدية مباشرةً، فإن للابن حساباته الحزبية وفلسفته الخاصة.
وفي التقييم الأوّلي، ربحت نظريّة تيمور وفقاً للخطوط العريضة التي وضعها لجهازه الحزبي، للتصرف على أساسها في الاستحقاق البلدي.
تشكّل المجالس البلدية والاختيارية ورئاسات الاتحادات البلدية لزعامة كزعامة آل جنبلاط، واحدةً من الدعامات الأساسية للنفوذ السياسي والاجتماعي والإداري، ومسرحاً للتعبير عن القوة والتأييد الشعبي.
لكن أمام المواجهة التي يخوضها جنبلاط مع شيخ عقل الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة موفق طريف حول موقع الدروز في الإقليم وزعاماتهم، والعلاقة «القلقة» أخيراً بينه وبين جسم المشايخ بشكل عام، اختار الزعيم الشوفي تجنّب المعارك الداخلية المجانية والارتدادات التي تخلّفها على العلاقات العائلية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في القرى الدرزية الصرفة، وعلى الداخل الحزبي أيضاً.
كما إن وليد جنبلاط لا يجد في الانتخابات اليوم محطةً لمواجهة سياسية في الجبل، حيث لا خصومة مع الأحزاب الموجودة. بل على العكس، يوطد الاشتراكيون علاقاتهم مع الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الديموقراطي اللبناني، ويتحاشون الصدام مع الوزير السابق وئام وهّاب، رغم اعتقادهم بأن تأثيره الفعلي على الأرض انحسر أخيراً إلى قريته الجاهلية.
وفي حسابات الجنبلاطيين تجربة الانتخابات النيابية الماضية التي علّمتهم أن مزاج الشارع بات مهماً جداً في آلية اتخاذ القرارات الانتخابية، إضافة إلى أزمة التمويل الواضحة، ما يدفع الحزب إلى الاقتصاد في توزيع موارده المالية لتأمين الأساسيات، وتجنب تمويل معارك «كسر عظم» في الجبل ليست من ضمن الأساسيات.
انكفاء جنبلاط الأب، إلّا عن بلدية الشويفات، عبّد الطريق أمام إستراتيجية خليفته، حيث ظهر تأثير تيمور جنبلاط للمرّة الأولى من دون ضبابية.
تجربة الانتخابات النيابية
علّمت الاشتراكيين أن مزاج الشارع بات مهماً جداً في آلية اتخاذ القرارات الانتخابية
فخلال لقاءاته مع فريقه الحزبي قبل الانتخابات، من وكلاء الداخلية والمفوضين وأعضاء مجلس القيادة، أعطى رئيس الاشتراكي توجيهاً للحزبيين والمحازبين بعدم تدخّل الحزب رسمياً في أي تنافس انتخابي وعدم تشكيل لوائح باسم الحزب، وترك الحرية للحزبيين للترشح وتشكيل اللوائح مع من يشاؤون والاقتراع لمن يشاؤون ولو كان ضد لوائح يشكّلها مسؤولون حزبيون.
كما منع المسؤولين المحليين من اتخاذ أي إجراءات عقابية بحق المحازبين الذين اتخذوا خيارات معاكسة لهم.
وأعلن أمام فريق عمله الحزبي، بأنه يدعم ثلاثة عناوين: التغيير حيث أمكن، إثبات حضور الجيل الجديد والكوتا النسائية. وأطلقت توجيهات جنبلاط الابن العنان للتنافس الانتخابي، من دون أن يتمكن اللاعبون التقليديون في الحزب من تجيير الغطاء الحزبي لمصلحتهم الشخصية، فكانت النتيجة أن مُنيت غالبية هؤلاء بخسارات واضحة في قراهم.
في 2016، وصف جنبلاط الأب في إحدى مقابلاته الانتخابات البلدية بأنها «حرب الأباطرة»، في إشارة إلى رجاله العتاق وأذرعه على الأرض، أو من كان يُعتقد قبل تلك الانتخابات بأنهم «مفاتيح المناطق» الذين تصارعوا في ما بينهم.
في يوم واحد، في 4 أيار 2025، أطاح تيمور بغالبية هؤلاء وكشف أنهم وسطاء من زمنٍ غابر وليسوا مفاتيح، لمجرّد أنه تركهم في مواجهة مع جيل الحزبيين الجدد الذين حققت غالبيتهم نتائج جيدة نسبياً لمصلحة حزبهم، عبر لوائح عائلية ومحليّة وسياسية متنوّعة، ولكن من دون راية الحزب الاشتراكي.
والأهم أنه باتت لدى تيمور مجموعة من رؤساء البلديات (المرجّحين) من طبقة رجال الأعمال وكبار الأغنياء، رغم أن جنبلاط الأب تضرر «شكليّاً» من هذه النتائج، على خلفية خسارة المرشح سيزار محمود في بلدة الباروك الشوفية، بعدما نشر زعيم المختارة صورةً له معه قبل يومين من الانتخابات، معلناً دعمه له كاستثناء وحيد من بين كل المرشحين لأسباب وصفها بـ«الموضوعية».
لكن الفائر كان فادي محمود، المتموّل وتاجر المعدات الطبية في لبنان والخليج. وبينما كان منزل فادي محمود المحطة التالية التي زارها تيمور بعد احتفال 16 آذار الماضي، حيث تناول الغداء معه كرسالة دعم غير رسمية للمحازبين الاشتراكيين الذين التقطوا الإشارة، فُسّر تدخّل جنبلاط الأب لدعم المرشح سيزار وكأنه رسالة سلبية لفادي، بسبب طرح اسمه للتوزير من قبل فريق الرئيس نواف سلام من خارج حصة الاشتراكي، خصوصاً أن النتائج لمصلحة فادي كانت قد صارت محسومة قبل إعلان دعم جنبلاط لسيزار بأيام. المعركة الوحيدة التي تدخّل فيها جنبلاط الأب بشكل فعلي كانت في الشويفات التي حرص فيها على تشكيل لائحة برئاسة نضال الجردي المحسوب على النائب السابق طلال أرسلان، لتأكيد التحالف معه ومع القوميين، والتي صبّ الاشتراكيون أصواتهم بغزارة لها. الجردي أيضاً تربطه علاقات جيدة بالاشتراكي، ويعدّ من نادي المتمولين الدروز.
أما في بشامون، حيث انقسم الاشتراكيون أيضاً بين لائحتين في معركة شرسة، فقد كانت زيارة تيمور لمنزل المرشّح عزات عيد ورقة الحسم لمصلحة لائحة الأخير في مواجهة لائحة ثانية تداركت الأمر وانسحبت قبل أيام من المعركة التي صبّ فيها الاشتراكيون أصواتهم للائحة لهم فيها كفة الميزان، من دون تدخل حزبي مباشر. ويعدّ عيد من أبرز المتمولين ورجال الأعمال المقرّبين من الاشتراكي، ومن أغنى الأغنياء الدروز.
أبرز الأباطرة الخاسرين كان النائب أكرم شهيّب في عاليه حيث تكرّس التحالف مع الأرسلانيين والقوميين. صحيح أنه انكفأ قبل الانتخابات بأسابيع، ولكن ذلك حصل بعدما أيقن عدم قدرته على التأثير في مجرى الانتخابات وتحديداً في مدينة عاليه، أمام قوة الرئيس الحالي وجدي مراد الذي يعدّ من أبرز الحزبيين والمقربين من النائب تيمور جنبلاط ووالده.
ثاني الأباطرة الخاسرين، هو هشام نصر الدين الذي كان يؤلّف اللوائح ويسمّي رؤساء ويُعيّن أعضاء في البلديات والمخترة. نصر الدين، الذي تحدّث باسمه هذه المرة وليس باسم حزبه، تعرّض لهزيمة في بلدته ديرقوبل، وهي أيضاً بلدة الوزير فايز رسامني الذي شكّل لائحة مع الحزبيين وآل يونس فازت بكاملها على لائحة نصر الدين.
ومن ديرقوبل إلى مرستي، حيث خسر القيادي الاشتراكي ناصر زيدان أمام لائحة يرأسها شاب محسوب على «التغييريين»، مع غالبية اشتراكية من الأعضاء الشباب.
وفي باتر، خسر رئيس البلدية السابق رائف صافي، ابن محمود صافي، المسؤول الأمني في الحزب الاشتراكي لسنوات طويلة والمقرّب جداً من جنبلاط الأب، أمام لائحة شبابية يرأسها شاب من آل خطار تربطه علاقة جيدة بتيمور جنبلاط.
وتضم لائحة الأباطرة القيادي فادي غريزي، وهو قائد قطاع الجرد السابق في الحزب وصل نفوذه سابقاً حد تزكية النواب في بعبدا وعاليه، إذ نجحت لائحته في بلدته بتاتر بنتائج متقاربة جداً مع اللائحة المنافسة التي تضم اشتراكيين، ما يعدّ فوزاً هزيلاً في قلعته التاريخية بتاتر.
أما في عرمون، فإن خسارة فراس الجوهري، ابن الرئيس السابق فضيل الجوهري الذي شكّل زعامة محلية خلال رئاسته للبلدية، تعدّ ربحاً صافياً لتيمور، مع فوز المتمول حسام الجوهري الذي تربطه علاقات جيدة أيضاً مع «التغييريين»، وهو شقيق جمال الجوهري رئيس لجنة الاغتراب في المجلس المذهبي. وسبق لحسام أن دعم الاشتراكي ومؤسساته وبعض المؤسسات الدرزية بمبالغ كبيرة خلال أزمة كورونا.
يشبّه أحد الاشتراكيين ما حصل الأحد الماضي بما كان يحصل مع أمين السر العام السابق في الحزب شريف فياض.
قبل انتخابات الجمعية العامة لانتخاب 14 عضواً لمجلس القيادة، كان جنبلاط يسأل فيّاض: كم مرشحاً لديك؟ وكان فياض دائماً يستقبل 16 طلب ترشيح، فيقرر جنبلاط أن يفوز 14 بالتزكية، وأن يراضي الاثنين الباقيين بتعيينهما من ضمن حقه القانوني في تعيين قسم من الأعضاء. في المرة الوحيدة التي قرر فيها جنبلاط أن تحصل انتخابات فعلية، خسر فيّاض!