يستعر النقاش بين الإدارات المختلفة في الدولة حول مذكّرة التفاهم التي تسعى المملكة المتحدة إلى توقيعها مع لبنان، للسماح للجيش البريطاني بالانتشار على الأراضي اللبنانية، في مسعى لفهم ما الذي يدور في خلفية هذا الطلب، منذ ما قبل «طوفان الأقصى» وبدء حرب الإبادة على غزّة. ويساهم في ضبابية المشهد الحالي، وجود خلط في النقاشات، بين مسوّدة المذكّرة التي نشرت «الأخبار» تفاصيل نسختين منها تلقاهما لبنان، واحدة قبل 7 أكتوبر (راجع «مشروع وصاية عسكرية بريطانية على لبنان»، 21 تشرين الثاني 2023)، وأخرى نهاية تموز الماضي (راجع احتلال بريطاني مقنّع للبنان 6 أيلول 2024)، وبين خطة بريطانيا لإجلاء رعاياها من لبنان في حال اندلاع حربٍ واسعة.
إذ إن موضوع مسوّدة مذكّرة التفاهم التي تتحدث عنها «الأخبار»، كما هو مدوّن فيها حول الهدف منها، لا يحتمل الالتباس أو الشكّ، بل إنه محدّد وبشكل واضح بالآتي: «هدف المذكّرة هو تحديد المسؤوليات والمبادئ العامة التي تخصّ نشر القوات المسلحة البريطانية على نطاق الأراضي اللبنانية لأهداف غير النشاطات التدريبية».
وهذا الطلب، كما أكدت مصادر رسمية عدّة، سابق أصلاً لأحداث 7 أكتوبر وتصاعد التوتر في الجبهة الجنوبية للبنان. وإذا كان التبرير البريطاني لهذا الطلب سابقاً (من دون ذكر ذلك في المسوّدة) بأنه إجراء احترازي لتلافي أخطاء إجلاء الرعايا من أفغانستان والسودان ولترتيب إجلاء هادئ ومنظّم من لبنان في حال اندلاع الحرب، فإن التبريرات البريطانية الجديدة لا تقلّ غموضاً عن سابقاتها. فقد أكّدت مصادر مقرّبة من السفارة البريطانية لـ«الأخبار» أن «سلامة الرعايا البريطانيين تحظى بالأولوية القصوى، ولذلك تقوم حكومة المملكة المتحدة بشكل روتيني بوضع خطط لاحتواء سيناريوات متعددة في لبنان. وهذا العمل يتضمن سيناريوات قد تطلب فيها الحكومة اللبنانية المساعدة من المملكة المتحدة، على سبيل المثال في كارثة طبيعية».
كلام المصادر يتقاطع مع رسالة من صفحتين، وجّهتها وزارة الخارجية البريطانية نهاية آب الماضي إلى الحكومة اللبنانية عبر وزارة الخارجية، تطلب فيها تسهيلات لنشر جيشها في لبنان لأغراض إجلاء الرعايا، وفي حال «احتاج لبنان إلى المساعدة الإنسانية من قبل بريطانيا». إلّا أن الرسالة لم تربط مباشرةً موضوعها بمسوّدة مذكرة التفاهم التي رفعتها وزارة الخارجية البريطانية من وزارة الدفاع البريطانية نهاية تموز الماضي إلى لبنان. وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن الرسالة الأخيرة لا تزال قيد الدراسة في الخارجية، بينما تم إرسال مسوّدة مذكّرة التفاهم إلى الجيش من الخارجية عبر الغرفة العسكرية في وزارة الدفاع، وقد وضعت وزارة الخارجية اللبنانية ملاحظة سريعة عليها بأنها «تمسّ بالسيادة اللبنانية»، مؤكّدةً أنها ستفنّد تعليقاتها بعد أن تستمع إلى رأي الجيش اللبناني. وفيما يستمر النقاش حول مسوّدة المذكّرة في أروقة الجيش بين استكمال البحث بها أو تجميدها، لم يعلّق وزير الدفاع موريس سليم عليها حتى الآن، بانتظار الجواب النهائي من قيادة الجيش. إلّا أن معلومات «الأخبار» تؤكّد استحالة مرورها عبر الوزير بصيغتها الحالية، وهو الذي يعتبرها إشكالية أيضاً. أمّا لجنة الدفاع النيابية، فتبدو بدورها مهتمةً بمتابعة المسألة عبر رئيسها النائب جهاد الصمد وأعضائها. وبحسب المعلومات، فإن اللجنة قد تطلب حضور قائد الجيش العماد جوزيف عون لوضعها في صورة مذكّرة التفاهم قيد الدرس، ولفهم الأسباب التي تدفع لبنان إلى البحث في توقيع مذكّرة من هذا النوع، وخصوصاً أن النقاش حالياً لا يزال في المؤسسات الرسمية ولم ينتقل بعد إلى القوى السياسية.
بالعودة إلى أصل مسوّدة مذكّرة التفاهم، من غير الواضح حتى الآن طبيعة النقاشات بين الجيش البريطاني والجيش اللبناني، والتي أدت إلى وجود مسوّدة لمذكّرة تفاهم تسمح لبريطانيا باستخدام ما تشاء من البنية التحتية اللبنانية، متى تشاء، وتتيح لجنودها التنقل بأسلحتهم ومعدّاتهم على الأراضي اللبنانية. وإذا كان الهدف هو الإجلاء بأكثر تنظيم ممكن وأقل خسائر ممكنة، فإنه يمكن ذكر الهدف بشكل واضح في نص المذكّرة وحصر الموضوع بالإجلاء، من دون الحاجة إلى أخذ إذن مفتوح ومسبق لنشر سفن وطائرات حربية في لبنان ونشر مجموعات من الجنود، طالما أن التنسيق قائم مع الجيش في أدق التفاصيل.
لجنة الدفاع النيابية قد تطلب حضور قائد الجيش لوضعها في صورة المذكّرة والأسباب التي تدفع لبنان إلى البحث في توقيعها
أما الخشية من الاستهداف الإسرائيلي لحملة الجنسية البريطانية من اللبنانيين أو البريطانيين المقيمين في لبنان كتبرير للإجلاء السريع، فإن حلّها ليس في لبنان وإنما في فلسطين المحتلة وعند الحكومة الإسرائيلية، حيث تمتلك بريطانيا الكثير من وسائل الضغط على إسرائيل، من قطع التعاون العسكري (جدياً) مع كيان الاحتلال ووقف مدّه بالأسلحة والمعلومات الاستخبارية والتجسسية من لبنان وفلسطين (كما توثّق وسائل الإعلام البريطانية والعبرية)، إلى فرض عقوبات على مسؤولين إسرائيليين، وصولاً إلى قطع العلاقات. وكذلك الأمر، بالنسبة إلى ذريعة تقديم العون للبنان في حال طلب الدعم لمواجهة كارثة بشرية أو طبيعية، فإن ذلك لا يحتاج إلى اتفاق مسبقٍ أيضاً، بل يكفي طلب الحكومة اللبنانية ذلك من نظيرتها البريطانية، وخصوصاً أن القوات البريطانية حاضرة في المنطقة وعلى بعد مئات الكيلومترات فقط عن لبنان ولا سيما في قبرص والأردن وحتى في داخل لبنان من خلال المستشارين العسكريين في مطار رياق العسكري وبعض القواعد الأخرى. والدليل ما حصل بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث طلبت الحكومة اللبنانية الدعم من فرنسا، فأرسلت وزارة الدفاع الفرنسية طاقماً من 700 جندي فرنسي من دون الحاجة إلى توقيع أي مذكرة، ورغم بعد القوات الفرنسية عن لبنان.
لا شيء حتى الآن يبرّر النقاش بالأساس حول مذكّرة تنتهك السيادة اللبنانية. وإذا كان من مصلحة بريطانيا البحث عن وجودها العسكري والسياسي في لبنان بكتابة مسوّدة من هذا النوع وهي التي تواجه تحديات مالية تخص موازنتها العسكرية وتسعى إلى توسيع انتشار قواتها، فإنّ من واجب المتلقّي اللبناني أن يقيس العلاقات الدولية على مقياس المصلحة والسيادة الوطنية، لا على قياس مصالح بعض المتحمّسين لتحويل لبنان إلى ساحة في «الحرب الباردة الجديدة» عن جهل أو استهتار أو تآمر، وخصوصاً أن توقيع مذكرة تفاهم من هذا النوع سيفتح شهيّة الدول الأخرى، الساعية أصلاً لتوسيع حضورها العسكري على شاطئ المتوسط إلى البحث عن مذكّرات مماثلة. اللافت في كل ذلك أنه مقابل الضجيج في كواليس الدولة، تجاهلت معظم وسائل الإعلام اللبنانية التعليق على قضيّة سياسية وسيادية على هذا المستوى، عدا عن تنطّح جريدة «لوريان لوجور» الناطقة بالفرنسية، إلى نشر تقرير لنفي ما ورد في مقال «الأخبار» حول مسوّدة المذكرة، والنفي من أجل النفي، بدل محاولة البحث عن الحقيقة.