رياضة

الأولمبياد في منظور علم النفس الاجتماعي: أصحاب المركز الثالث هم «الأكثر» فرحاً!

حسين فحص - الأربعاء

تُختَتم غالبية الفعاليات الرياضية بمركزين: أوّل سعيد وثانٍ خائب. وعلى خلاف التراتبية السائدة في مختلف الرياضات، يُسدَل ستار «الألعاب» الأولمبية على ثلاثة مراكز ثابتة، يحصد ضمنها الأول ميداليةً ذهبية، فيما يحصل الثاني على ميدالية فضية والثالث على برونزية. للمفارقة، وبعكس باقي الاستحقاقات، يشعر ثالث الأولمبياد عادةً بسعادة غامرة، مقارنةً بالفئات الأخرى، فما السبب؟

رغم فوزها في نهائي سباق 100 متر ظهراً، ضمن الألعاب الأولمبية في ريو 2016، لم تحتلّ الهنغارية كاتينكا هوسو العناوين العريضة. من خطفَ الأضواء حينها هي السبّاحة الصينية فو يوانهوي صاحبة المركز الثالث، التي فاقت ابتسامتها وهجَ الذهب نفسه بعد نيلها ميداليةً برونزية. وعلى نسق فو يوانهوي، رُصدت بهجة أصحاب المركز الثالث في أولمبياد طوكيو 2020 كما نسخة باريس الجارية، بدرجة تفوق سعادة أصحاب الميدالية الفضية وتوازي فرحة الأوائل.
هي ليست صدفة عابرة، بل خلاصة تحليلات نفسية واجتماعية شغلت اهتمام العلماء لعقود. لفهم هذه «الظاهرة»، يجب التعمق في كيفية شعور الرياضيين بشأن حصد ميدالية غير ذهبية، بعيداً من تأثير وسائل الإعلام والتصوّر العام.
في هذا الإطار، كشفت دراسة أُجريت عام 2016 لتحليل مشاعر الرياضيين الأولمبيين على منصة التتويج أن هناك عوامل متعددة تؤثر على سعادة الحائز على الميدالية الفضية أو البرونزية. بحسب الدراسة، يميل الفائزون بالميداليات البرونزية إلى إظهار استجابات أكثر سعادة لأدائهم الأولمبي، مقارنةً بالفائزين بالميداليات الفضية، ويعود ذلك إلى أن «الحائزين الميدالية الفضية قد يفكرون في مدى خيبة أملهم لعدم حصولهم على الميدالية الذهبية، فيما يفكر الحائزون الميدالية البرونزية بمدى حظهم بالدرجة الأولى في الصعود على منصة التتويج».
وأكّدَ عالم السلوك في جامعة كولورادو بولدر، بيتر ماكغرو، أن السبب وراء عدم امتثال الرياضي الأولمبي لمنطق السعادة أكثر بالميدالية الفضية، مقارنةً بالبرونزية، يمكن تفسيره بالظاهرة التي تسمى «التفكير المضاد للواقع»، بحيث «يميل الناس إلى مقارنة حالتهم في العالم وما يحدث لهم بما كان يمكن أن يكون».

توصّلَ بعض العلماء إلى نتائج لافتة بناءً على رصد ردّات فعل المتوّجين الأولمبيّين على المنصّات

من جهته، يقول فرانسيسكو دوينا، أستاذ علم الاجتماع في كلية بيتس ومؤلف كتاب «الفوز: تأملات في الهوس الأميركي»: «لدينا تصورات أو إصدارات متعددة لما يعنيه الفوز والخسارة. في الألعاب الأولمبية، تخضع الفرق المختلفة وحتى الأفراد لمعايير مختلفة للنجاح بناءً على التوقعات المحددة. لا يتم تعريف الفوز بلون الميدالية في هذه الحالة، ولكن بدلاً من ذلك بالقدرة على تلبية التوقعات كما تم تحديدها. أيّ شيء أقلّ من ذلك يعدّ فشلاً».
وبهذا المقياس، فإن المركز الثالث يمثّل نجاحاً لفرق أو أفراد لم يكونوا يتوقّعون التتويج أساساً بأيّ ميدالية قبل مشاركتهم. يظهر ذلك عبر الفرحة الكبيرة لفريق الجمباز الأميركي للرجال في نسخة باريس الجارية، بحصده ميدالية برونزية هي الأولى له في الأولمبياد منذ 16 عاماً.

لغة الجسد
بعيداً من ربط الفرضيات بالجانب التحليلي النظري، توصّلَ بعض العلماء إلى نتائج لافتة بناءً على رصد ردّات فعل المتوّجين الأولمبيين على المنصات.
في دراسة شارك فيها توماس جيلوفيتش، أستاذ علم النفس بجامعة كورنيل، حول التفكير الواقعي والرضى بين الفائزين بالميداليات الأولمبية (نُشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي والشخصية عام 1995)، قام جيلوفيتش وزملاؤه بتسجيل جميع التغطيات التي قدمتها شبكة «إن بي سي» للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1992 في برشلونة، وتحليل كيفية تفاعل الفائزين بالميداليات البرونزية والفضية.
خلال الدراسة، عرض الباحثون 25 لقطة من ردات فعل الأولمبيين بعد المنافسة، بالإضافة إلى مقابلات شخصية، مع لجنة من 20 طالباً جامعياً أشاروا إلى أنهم إما غير مهتمين أو غير مطّلعين على الألعاب الأولمبية. وطُلب من هؤلاء الطلاب تقييم ردود أفعال الرياضيين الأولمبيين وعواطفهم في مقاطع الفيديو، من دون معرفة من فاز بالميدالية البرونزية أو الفضية. عند تقييم ردود الأفعال الفورية، أشار الطلاب إلى أن الحائزين الميدالية البرونزية بدوا أكثر سعادة في المتوسط ​​من نظرائهم الذين فازوا بالميدالية الفضية.
وفي دراسة أخرى أجريت عام 2006 بعد ملاحظة الاختلاف في مدى سعادة الحائزين الميداليات البرونزية والفضية (نشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي والشخصية أيضاً)، جرى استخدام صور لـ 84 فائزاً بالميداليات الذهبية والفضية والبرونزية في الألعاب الأولمبية لعام 2004 في أثينا.

بعد فحص تعابير الوجه العفوية للرياضيين فور فوزهم أو خسارتهم، مثل حركات عضلات الوجه ومواضع العين، لخّصَ النتيجة أستاذ علم النفس في جامعة ولاية سان فرانسيسكو والمؤلف الرئيسي للدراسة، ديفيد ماتسوموتو، بقوله: «وجدنا أن الحائزين الميداليات البرونزية يميلون إلى الحصول على المزيد من الابتسامات «الحقيقية»، والمعروفة باسم ابتسامات دوشين. هذه الابتسامات لا تشمل فقط العضلة المبتسمة التي تسحب زوايا الشفاه إلى الأعلى، ولكن أيضاً العضلة حول العينين، والتي ترفع الخدين وتُضيق الجفون».
ولفتَ ماتسوموتو، الذي كان أيضاً مدرب جودو أولمبي سابقاً، إلى أن معظم الحائزين الميدالية الفضية «لم يبتسموا على الإطلاق بعدما خسروا للتوّ مباراتهم»، ثم أضاف: «على المنصّة لاحقاً، ابتسم جميع الرياضيين. ومع ذلك، كان للحائزين الميدالية الفضية ابتسامات اجتماعية غير دوشين، والتي لم تشمل العضلة حول العينين. وهذا يشير إلى أنهم كانوا يبتسمون ليكونوا مهذّبين ولكنهم لم يكونوا سعداء حقاً».
في النهاية، تبقى المشاركة في حدث استثنائي مثل «الأولمبياد» إنجازاً بحد ذاته، بغض النظر عن التتويج بميدالية ذهبية، فضية، برونزية، أو احتلال المركز الأخير. وبعيداً من كونها محفّزاً أساسياً للذهاب بعيداً في أي استحقاق، قد تسهم التطلّعات الشخصية العالية لكل رياضي بمدى احتواء المشاعر عند نهاية المنافسة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى