عند “شاطئ الوجد”، توقفت عقارب الساعة مشيرة إلى الواحدة والأربعين دقيقة. وحدها أصوات طقطقات الحديد التي تعانق ألسنة النار، تختصر المكان والزمان. في ذاك الشارع الذي تشتم منه رائحة الشاطئ وعطر البحر.. صوت قوي يخترق أجواء الحوش في صور. سارع الجميع لمعرفة الخبر. هول المشهد جعل كل ما حوله مجرد ضباب يسرق الرؤية، وكل ينتظر من هو “السر” المخبأ بين ألسنة تكاد تقول “يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم”.
دقائق معدودة، لثقلها تشعر وكأنك تنتظر قافلة آتية وسط الصحراء، تتهادى على هودج يشعر بأحمال كبيرة وحرارة الإعياء.
لحظات قليلة ضاقت فيها الأنفاس، وبدأت أسمع دقات قلب تحادث الروح تقول “إنه هو.. هو ذا المكان الذي كان يوماً سراً في قلوبنا…”!
كل اللحظات عادت لتؤكد للقلب أنه “هو”… سؤال واحد لزميل إعلامي قال “ربما ضربة مؤلمة”… عرفته.. علمته.. أدركته..
الحاج “أبو نعمة”! ارتجافة الأصابع تظنها لعجوز تجاوز الثمانين… إنه هو. لتبدأ الأصوات من حولي تختفي… فانتقلت بلمح البصر إلى هناك، حيث دخان يغطي المكان وبقايا سيارة أبت إلا أن تبقى شاهداً على مجازرهم… بقايا حطام أراها تحاول أن تصل إلى قطرات المياه المالحة، حيث الشاطئ.. أعود إلى تلك الليلة.
لم يكن البحر بعيداً… كان هناك حيث التقيناه يوماً… حيث قررنا الارتقاء إلى تلك الناحية.. جئناه وكلنا إصرار أن نغوص في كنهه… أن نسبر الأغوار، ولو في الحد المسموح… لنفهم الجبهة والميدان، لنقترب أكثر من الحدث.
وجدنا أنفسنا أمامه من دون قيود نفسية، من دون تكلّف يُذكر… حاولنا الإبحار بين أمواجه الهادئة، فأعطانا من لآلئ حبه الكثير… لا زالت تلك اللآلئ تُحيينا، تُضيء دربنا، تُرشدنا أن لكل بحرٍ أسرار سنكتشفها في أوقاتها.
ظننته بحراً، فاسميته كما شعرت، وبين أمواجه كانت تتسابق الأخلاق والإخلاص. لم أستطع أن أحسبها كلمات مارة بين سطور جهاده…
كان شعره المشتعل شيباً يخبرك عن عمر من الجهاد والمقاومة.. عن عمر تقاذفته روح ثورية عشقت الميدان حد الهيام، وكأن الأرض والبندقية توأم الروح في ميادين العمر.. هو الإخلاص الذي ذكره بين كل أفكاره على مدى الساعات التي عشناها.. وليتها طالت…
هي الروح المثابرة التي عرفها موجُه المتكرر نحو شواطئ الحب، تخبرنا أن كل انتظار بشغف وعمل يوصلنا إلى ما نريد في آخر السماء…
كان يعمل بصمت هادر، كالبحر تماماً، يوشوشك حيناً، ويخبرك عن دموع المحبين الصادقين.. يوشوشك أن الحبيب ها هنا ينتظر أناملك أن تمر بين حبيبات الرمل لتكتب، رغم سخونته، أن الرد قادم.. يخطط، يقرر، ينفذ، وفي صدرك أن القادة الحقيقيين يبقون في الميدان راسخون كالزيتون وشجر الزلاب.
سمعت عنه كثيراً.. ربما كدت أختنق بالأحرف حرصاً على اسمه الحقيقي. بصوت خافت سألته، في تلك الليلة الكانونية الباردة “ماذا أسميك؟”، قال “ما شئتِ.. أبو نعمة.. محمد.. أبو علي.. كل الأسماء لا أمانعها”. اخترت الاسم الأول، ثم ترددت قليلاً وبحت به لرفقاء الجلسة، “الحاج أبو نعمة” هو ذا القائد الذي سنخوض معه غمار جلستنا، سيحرص ان يستعرض لكم الجبهة في جنوب لبنان… لنبدأ شرحاً يجعلك تتسمر أمام معلومات دقيقة متراكمة، بسبب الخبرة التي وصل إليها هؤلاء…
كل التفاصيل بقيت في الذاكرة.. رائحة القهوة التي امتزجت وكلام “البحر”…
يقولون إن للرائحة تأثير قوي على الذاكرة. نعم، تعلقت ذاكرتي بالشخص والمكان في تلك الليلة الباردة، باتت إدماناً لتلك اللحظات التي مرّت وكأنها دقائق. لا شيء استعدته سوى صوت “بحر” وابتسامته التي لم تفارقه. حتى خجله كان واضحاً.
متواضع حد الثمالة. تظن أنك تعرفه منذ سنين. كل شيء في ذاك المكان يشبهه: هدوء وطمأنينة أمام المحبين، وعند العواصف والصعاب تراه عتياً يثير الزوابع ويشل حركة الأعداء.
“بحر” هو… هكذا أطلقت عليه الإسم. لم أدرك انه “سيد البحار” إلا حين رأيته في عيون محبيه، رأيته يرسم عمراً من الإخلاص لمقاومة باتت كل خلايا جسده تعشقها، وكل قطرة من دمه السائر في العروق يباهي بها.. هو روح تقاتل كالعماد وبأس ذو الفقار.. هو جيل أول الطلقة في صدر العدو، ليأنس مع العباس ويدافع عن المضطهدين.. عاش مع المظلومين، وصنع مع المقاومين انتصارات المقاومة، وخبرها. هو بحر من حكايا دماء صنعت كرامة، فكان لعزيز درة التاج… هو بحر من قدرات المعرفة، والواثق بكل ما لدى حزبه من أحقية تجعله يقدّم أغلى ما يملك من عمر وسنوات لأجل قضية أسمى من مستوانا نحن البشر. أوَلسنا على الحق إذاً لا نبالي أوَقعنا على الموت أو وقع الموت علينا..
في آخر اللقاء كنا ننتظر موعداً آخر مع ذاك “البحر”، ابتسم وقال إنه جاهز… آخر مشهد كان أمام الباب ونحن نستقل سياراتنا، لوح بيده البيضاء مبتسماً. تمنيت أن نعود مجدداً لنرتشف من أصالته بعضاً من الحب والوفاء… كنت أظن أننا سنعود قريباً مع انسدال ستار المعركة بعد أن تختفي الغيوم السوداء..
بعد أن تتحقق عدالة السماء وننتصر في أرضنا، كما اصحاب القضية الفلسطينية. صحيح أن أمثال “أبو نعمة” هم من يرتقون، لكن كنت أظنها ستتأخر قليلاً.. كدت أجزم أننا سنلتقي تحت شجر الزيتون هذه المرة لتخبرنا عن أسرار جديدة، وعن انتصارات كبيرة… كدت أجزم أنك ستكون هناك تبتسم مجدداً لتقول إن سر الانتصارات في هذه الحروب هو الإخلاص، وإن كل شيء بعين الله… كدت أجزم أننا سنراك لتحدثنا عن أسرار هذه القوة التي كنت تؤمن بها، عن قوة تملكها هذه الأرض لتطرد العدو وتهزمه…
أمثالك يا “سيد البحار” يرتقون، ويتركون لنا آلاف قطرات الندى لتحمي الأرض والزرع.. لينبت من عنفوانك آلاف “محمد” وآلاف “أبو نعمة” وآلاف “ناصر”…