بوتيرة “تدريجية”، يفاجئ رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط الجميع بمواقفه “المتغيّرة” من الكثير من الاستحقاقات والملفات، وآخرها تصريحه عن “دعم” ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، أو بالحدّ الأدنى، بعدم ممانعته السير بانتخابه (أو غيره) رئيسًا للجمهورية، ولو أنه أقرّ بأنّ “موقفه” قد لا يلقى الإجماع داخل كتلة “اللقاء الديمقراطي” التي يرأسها نجله النائب تيمور جنبلاط.
لم يأتِ موقف جنبلاط الداعم لفرنجية من “فراغ”، من حيث التوقيت أولاً، فهو جاء بعيد لقاء جمعه مع من يمكن وصفه بـ”قائد المعسكر الداعم” لرئيس تيار “المردة”، رئيس مجلس النواب نبيه بري، كما جاء أيضًا بعد أيام من “العشاء العائلي” الشهير الذي جمع آل جنبلاط وآل فرنجية في كليمنصو، وإن قلّل الكثيرون من تبعاته على الاستحقاق الرئاسي، الذي قيل في بعض الأوساط إنّه لم يكن “طبقًا دسمًا” على مائدة ذلك العشاء.
su0oiويمكن القول إنّ هذا الموقف لم يأتِ من “فراغ” أيضًا في المضمون، فهو اقترن بسلسلة مواقف أطلقها “البيك” في الحديث الصحافي نفسه، أثار بعضها “نقزة” لدى الكثير من أصدقائه المفترضين، على غرار انتقاده لشعار “لبنان أولاً” الذي كان ممّن رفعوه أيام “ما كان يسمّى بـ14 آذار”، حيث وصفه بـ”السخيف”، قبل أن يتراجع لاحقًا ويطلب اعتبار تصريحه “في غير مكانه”، حتى لا يبدو كمن “يتنكّر لحقبة مهمة من تاريخه”.
لا شكّ أنّ تراجع جنبلاط عن هذا التوصيف لم يكن كافيًا لطمأنة بعض “الأصدقاء”، أو حتى “الحلفاء المفترضين” الذين سار معهم سابقًا لا بترشيح ميشال معوض وجهاد أزعور فحسب، بل بمعارضة “حزب الله”، لتصبح مواقفه اليوم “مؤيدة” للأخير من البوابة الجنوبية الضاغطة، ما يفتح الباب أمام العديد من علامات الاستفهام، فهل يواصل جنبلاط “انعطافته” نحو الحزب بشكل أو بآخر؟ وهل يمهّد بذلك لفتح أبواب بعبدا أمام فرنجية؟.
من حيث المبدأ، يقول العارفون إنّ موقف جنبلاط، وإن بدا مفاجئًا لكثيرين، لا يخرج عن دائرة التكهّنات، إذ كان كثيرون يتوقعون منذ اليوم الأول لفتح “البازار الرئاسي” أن ينجح رئيس مجلس النواب في “استقطاب صديقه”، إلى معسكره إن جاز التعبير، إلا أنّ العائق الذي لطالما كان يصطدم به يتمثّل في موقف بعض أعضاء كتلته، وتحديدًا نجله الذي كان يرفع “الفيتو” في وجه هذا الخيار، ما يطرح التساؤل عمّا إذا كان هؤلاء أضحوا “أكثر مرونة” اليوم.
حتى الآن، لا يبدو أنّ هناك إجابة “حاسمة” على مثل هذا السؤال، ولو أنّ جنبلاط نفسه استبق الأمور حين رجّح أنّ موقفه قد لا يشاركه فيه جميع أعضاء “اللقاء الديمقراطي”، علمًا أنّ بعض الأسماء قد لا تجد نفسها في هذه الخانة تحت أيّ ظرف من الظروف، لكن مع ذلك يمكن اعتبار موقف “البيك” خطوة أولى، وفقًا للعارفين، نحو تبنّي خيار انتخاب فرنجية رئيسًا، إذا كان من شأن ذلك أن يضع حدًا للفراغ الرئاسي الذي لم يعد أحد قادرًا على تحمّله.
بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ جنبلاط يوجّه بموقفه هذا “رسالة” للجميع، بدءًا من أصدقائه المفترضين في قوى المعارضة، الذين “تقاطع معهم” على خياري معوض وأزعور، ولو أنه تقاطعٌ برأي كثيرين انطلق من “يقين بعدم الجدية”، وصولاً إلى أعضاء “اللقاء الديمقراطي” الذين يريدهم أن يستعيدوا الدور الذي لطالما لعبوه كـ”بيضة قبان”، وهي رسالة مفادها بأنّ “القفز” فوق “حزب الله” غير وارد، وأنّ مثل هذا التكتيك لا يمكن أن يفضي لانتخاب رئيس.
وعلى الرغم من أنّ هذه القراءة لموقف “البيك” الذي لم يعتد أن يطلق مثل هذه التصريحات “في الهواء” قد تبدو “واقعية”، ثمّة بين المحسوبين على حزبه من يعتبر أنّ مواقفه “حُمّلت أكثر ممّا تحتمل”، فما قصده هو الحثّ على التفاهم من أجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي في أسرع وقت ممكن، وأنّه جاهز للعب دور المسهّل أيًا كان من يتمّ التوافق عليه، بدليل قوله إنّه جاهز لانتخاب فرنجية “أو غيره”، ما يعني أنه لم يحصر الأمر بمرشح دون غيره.
لكنّ العارفين يقلّلون من شأن هذه المقاربة “العمومية”، إن جاز التعبير، وإن كانت تحتمل الصواب، للكثير من الاعتبارات والأسباب، قد يكون على رأسها موقف جنبلاط من التطورات الأخيرة في جنوب لبنان، ورسائل “الودّ” التي يوجّهها إلى “حزب الله”، والتي وصلت إلى حدّ “تفهّم” ما يقوم به في الجنوب، بعكس اتجاه قوى المعارضة، التي يتحدّث بعضها عن محاولة تشكيل “جبهة مناهضة” للحزب، لا يمكن أن يكون “البيك” جزءًا منها في زمن الحرب.
ولأنّ “البيك” معروفًا تاريخيًا بالقدرة على التقاط إشارات التطورات، أو “الرادارات” كما يحلو للبعض توصيفه، يرى كثيرون أنّ موقفه “الداعم” لفرنجية يصبّ في هذا الإطار تحديدًا، كما دعوته لتوسيع اللجنة “الخماسية” بحيث تضمّ إيران في صفوفها، ما يوحي وكأنّ الرجل “يستقرئ” تسوية ما بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، التي قد تأتي نتائجها لصالح ترشيح فرنجية، كما يراهن داعموه أصلاً، الذين يرفضون التخلّي عنه في هذا الوقت.
في كلّ الأحوال، يقول العارفون إن موقف “البيك” لا يكفي عمومًا لفتح أبواب بعبدا أمام فرنجية، ولو أجمع عليه أعضاء “اللقاء الديمقراطي”، ولو تمدّد ليشمل بعض النواب السنّة “المتردّدين”، والذين يراهن عليهم معسكر “حزب الله”، لأنّ المطلوب التوصّل إلى “تفاهم وطني شامل” لا بدّ أن يضمّ بالحدّ الأدنى، أحد المعسكرين المسيحيين الأساسيين، أي “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، وهو موقف سبق لجنبلاط أن أعلنه، ويقول العارفون إنه يتمسّك به.
في حديثه الصحافي الأخير، قال جنبلاط: “منذ عامين نراوح مكاننا وننتظر اتفاق المسيحيين”. قد يفسَّر موقفه على أنه “انقلاب” على مثل هذا الانتظار، وقد يُعتبَر “حثًا لهؤلاء” على التفاهم مع الآخرين، انطلاقًا من الدور “المسهّل” الذي يريد لعبه. ثمّة اختلافٌ شاسعٌ بين التفسيرين، لكنّ “الثابت” وفق ما يقول العارفون بـ”تقلّبات” جنبلاط، إن جاز التعبير، أنّ الرجل يقول للمسيحيين وغيرهم، إنّ المطلوب انتخاب رئيس، أي رئيس، “ومهما كان الثمن”!.