
لطالما زعم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ ما قبل تولّيه مهامّ منصبه في كانون الثاني الماضي، أنه قادر على إنهاء الحرب في أوكرانيا في وقت وجيز. ولهذه الغاية، فتح طريقاً للتواصل المباشر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بغرض التوصّل إلى اتفاق سلام ينهي الصراع المستمر لعامه الرابع على التوالي. لكن الأسابيع القليلة الماضية، حملت إشارات متقاطعة إلى أنّ ترامب بات يشعر بإحباط متزايد إزاء «تعنّت» نظيره الروسي في المحادثات، وإنّ واشنطن بدأت بالفعل في رسم معالم إستراتيجية جديدة أكثر عدوانية لإدارة «الحرب والسلام» في أوكرانيا.
ولعلّ أبرز مؤشرات هذا التحوّل، جاء أثناء مكالمة هاتفية كشفت مصادر صحافية أنها جرت في الرابع من تموز الجاري، بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأنّ الأول شجّع عبرها الثاني على تكثيف الضربات في العمق الروسي، وسأله صراحةً عمّا إذا كان بإمكان جيشه ضرب موسكو وسانت بطرسبورغ حالما زوّدته الولايات المتحدة بأسلحة طويلة المدى، ما أجاب عليه زيلينسكي بالموافقة التامّة، مؤكّداً قدرة أوكرانيا على تنفيذ مثل هذه الضربات فور توفّر الأسلحة المناسبة.
وفيما لم تعلّق مصادر البيت الأبيض أو المكتب الرئاسي الأوكراني على ما نشرته الصحف، فإنّ مراقبين قالوا إنّ مضمون هذا النقاش وتوقيته يمثّلان انعطافاً حادّاً في مواقف ترامب، ويمكن قراءتهما كإشارة إلى رغبته في «إشعار الروس بالألم» لإجبار الكرملين على التفاوض وفق السقوف الأميركية. وأتت مكالمة ترامب – زيلينسكي في أعقاب محادثة مع بوتين في اليوم السابق، وصفها ترامب بأنها كانت «سيئة»، وعبّر بعدها عن تبرّمه الشديد من موسكو بسبب عدم إحراز تقدّم في المحادثات لعقد صفقة تسوية تنهي الصراع، قائلاً: «أنا أشعر بخيبة أمل من الرئيس بوتين، لأنني اعتقدت أنّنا كنّا سنصل إلى اتفاق قبل شهرين».
على أنّ تحوّلات ترامب لم تقتصر على التصعيد العسكري، بل امتدّت إلى الجانب الاقتصادي، إذ هدّد روسيا بفرض «تعرفات جمركية ثانوية» بنسبة 100%، إذا لم تنتهِ الحرب الأوكرانية في غضون 50 يوماً. وهذه التعرفات ستكون – وفق ترامب – «قاسية جداً ومؤلمة جدّاً»، وهي تهدف إلى عزل موسكو عن الاقتصاد العالمي، عبر استهداف الدول التي تتاجر معها، بما في ذلك الصين والهند، أكبر مشتري النفط الروسي. وسبق لترامب أن أشار إلى نجاح استخدام التجارة في تسوية النزاعات، مستشهداً بحالات من مثل النزاع بين الهند وباكستان، وبين رواندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية.
وفي إشارة أخرى إلى جدّيته في هذا التحوّل، أعلن ترامب عن خطّة لتزويد أوكرانيا بأنظمة دفاع جوي، مؤكّداً أثناء اجتماع في المكتب البيضاوي مع الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي»، مارك روته، أنّ حلفاء بلاده سيشترون «مليارات الدولارات من المعدّات العسكرية» من الولايات المتحدة، وأنه سيتم «توزيع هذه المعدّات بسرعة على خطوط المواجهة» في أوكرانيا. وتشمل الإمدادات الجديدة أنظمة صواريخ «باتريوت»، التي تعتبر حاسمة لدفاعات أوكرانيا وقادرة على إسقاط الصواريخ الباليستية الروسية.
وأكّد روته، من جهته، أنّ ألمانيا وفنلندا والدنمارك والسويد والنروج وهولندا وكندا تأمل جميعها في أن تكون جزءاً من صفقة الأسلحة تلك، مشدّداً على أنّ «السرعة هي جوهر الأمر هنا»، في حين أشار ترامب إلى أنّ بعض أنظمة «باتريوت» ستأتي من النروج، وأنّ هناك بلداً آخر لديه 17 نظاماً «يتم إعدادها للشحن إلى كييف بسرعة كبيرة».
على الجانب الآخر، يبدو أنّ الرئيس الروسي غير متأثّر بتهديدات ترامب الأخيرة. فوفقاً لمصادر مقرّبة من الكرملين، يعتزم بوتين مواصلة القتال في أوكرانيا حتى يلبّي الغرب شروطه للسلام، غير آبه بتهديدات الرئيس الأميركي بفرض عقوبات أشدّ. وبحسب المصادر نفسه، فإنّ بوتين يرى أنّ الاقتصاد والجيش الروسيّين قويان بما يكفي لتحمّل أيّ إجراءات غربية إضافية، بعدما أثبت الاقتصاد بالفعل مرونة ملحوظة في مواجهة أقسى العقوبات الغربية طوال السنوات الماضية. وتفيد المصادر بأنّ الرئيس الروسي يجد أنّ أحداً لم ينخرط معه بجدّية للبحث في سبل تحقيق السلام في أوكرانيا، بما في ذلك الأميركيون، ولذا، فهو سيستمر في القتال وربّما توسيع أهداف الحرب إلى أن يحصل على ما يريد.
وتشمل شروط بوتين للسلام، تعهّداً ملزماً قانونياً بأنّ «الناتو» لن يتوسّع شرقاً، وضمان حياد أوكرانيا، ووضع قيود على حجم قواتها المسلحة ونوعية تسليحها، وحماية الناطقين بالروسية الذين يعيشون هناك، والاعتراف بضمّ روسيا الأراضي التي يسيطر عليها جيشها بالفعل في شرق أوكرانيا وجنوبها.
وبينما أعلن الرئيس الروسي استعداده لمناقشة ضمانات أمنية لأوكرانيا بمعرفة القوى الكبرى – من دون توضيح آليات ذلك -، فإنّ قواته تتقدّم على الأرض باطراد، وهي ابتلعت بالفعل نحو 1500 كيلومتر مربع من الأراضي أثناء الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط. وعليه، يَعتقد خبراء أنّ بوتين يراهن الآن على مواصلة الأعمال العسكرية حتى تنهار دفاعات أوكرانيا، ما قد يتيح له عندئذ ضمّ مناطق دنيبروبتروفسك وسومي وخاركيف في غرب إقليم دونيتسك.
وتشير مصادر روسية قريبة من أجواء الكرملين إلى أنّ بوتين يعتبر أهداف موسكو الإستراتيجية أكثر أهمية بكثير من أيّ خسائر اقتصادية محتملة من جرّاء الضغط الغربي، في حين يصرّ زيلينسكي على أنّ أوكرانيا لن تعترف إطلاقاً بسيادة روسيا على المناطق التي تحتلّها، ويؤكّد أنّ كييف ترى ضمانة أمنها في احتفاظها بالحقّ السيادي لطلب الانضمام إلى عضوية «الناتو».
وعلى أي حال، فإنّ التحوّل الأخير في إستراتيجية ترامب، يبدو مدعاة لمخاوف جدّية في شأن التوتّرات المتزايدة بين القوتَين النوويتَين الأكبر في العالم، وهو ينبئ بتصعيد حادّ في مجريات الحرب في أوكرانيا أثناء الأشهر القليلة المقبلة، ما سيضع العالم برمّته أمام تحدّيات أمنية واقتصادية غير مسبوقة.