
منذ الصباح، بدا المشهد الانتخابي في قضاء الكورة شبه واضح، وإن لم يخلُ من المفاجآت. طغى على معظم بلداته اختبار مزدوج: العائلات في مواجهة الأحزاب، والأحزاب في مواجهة بعضها البعض. وفي خلفية المشهد، ظلّ استحقاقان يلوّحان في الأفق: رئاسة اتحاد بلديات الكورة، التي درج العرف على أن تكون مارونية، من دون اتفاق محسوم على استمراره. إضافة إلى الانتخابات النيابية عام 2026، التي بدت في هذه “الجولة البلدية”، كأنها بروفة أولية لها.
تحالف هجين
مرّ اليوم الانتخابي الطويل بهدوء أمني لافت، لكن بصخب سياسي واجتماعي لا يهدأ. الكورة، التي تُعرف بكونها “ساحة معارك هادئة”، تحوّلت إلى ميدان فعلي لاستعراض الحيثيات الشعبية وتصفية الحسابات الحزبية، حتى داخل الصف الواحد. والحزب السوري القومي الاجتماعي النموذج الأوضح لهذا الانقسام، إذ خاض الانتخابات بأجنحة متنافرة في أكثر من بلدة.
أما المعارك الأساسية، فتمركزت بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، وسط حضور نوعي ومتحرّك للقوميين، وتحالفات متحوّلة من بلدة إلى أخرى: هجينة، مرنة، ومصلحية في بعض الأحيان. ومعارك كسر عظم لم ينفع فيها التوافق ولا التورية. وفي اللحظات الأخيرة، نشطت الاتصالات، وارتفعت الحماسة، وتكثّفت “التشجيعات” المالية والمعنوية.
انقسام “القومي” وتسلل القوات
سجّلت بلدة أميون نحو 2200 مقترع، بتراجعٍ بلغ نحو 8 بالمئة عن المعدلات السابقة. لكن هذا التراجع لم يُخفِ سخونة المعركة ولا فرز الاصطفافات المستجدة. فالبلدة التي تُعدّ من حصون الحزب السوري القومي الاجتماعي، كانت ساحة انقسامه. إذ خاض جناحان معركتين منفصلتين على لائحتين متواجهتين.
لائحة “معًا لأميون”، برئاسة رئيس البلدية الحالي مالك فارس، نالت دعم الفريق القومي المحسوب على النائب السابق سليم سعادة، إلى جانب مرشحين مقربين من”القوات اللبنانية. في المقابل، ترأس الدكتور بسام عبيد “لائحة مدينة أميون”، مدعومًا من الفريق القومي القريب من المهندس غسان رزق، إضافة إلى “التيار الوطني الحر”، والحزب الشيوعي”، ومستقلين.
المفارقة أن “القوات” التي غالبًا ما تحرص على عدم التقاء تاريخي مع “القومي”، وجدت نفسها في خندق انتخابي مشترك معه ضد قوميين آخرين، وتياريين، وشيوعيين. تحالفٌ ظاهره المصلحة، وباطنه رهان واضح على الحصان الرابح. وبذلك تكون “القوات” قد سجّلت خرقًا رمزيًا مهمًا داخل أميون، من بوابة القومي، في تحالف يشبه الكثير من تحالفات المرحلة: مؤقت، ظرفي، ومرتبط بميزان القوى أكثر مما هو نتاج تفاهم أيديولوجي.
تبدل المزاج العام
بلغ عدد المقترعين في كفرحزير 1001 ناخب من أصل 2700، في مشهد انتخابي اتّسم بفعالية التعبئة والتنظيم من قبل الأطراف الأساسية. هنا، لم تكن المعركة مجرد منافسة انتخابية، بل اختبارًا لتحالفات مركبة، وصيغة مدنية لتقاسم النفوذ.
تقدّمت لائحة “عائلات كفرحزير”، برئاسة فوزي المعلوف وإبراهيم جحا، مدعومة من “القوات” وجناح الحزب القومي المقرّب من النائب السابق سليم سعادة. وتم الاتفاق داخل هذا التحالف على مبدأ المداورة في رئاسة البلدية: ثلاث سنوات لكل فريق، في محاولة لضبط التباينات واحتواء الفروقات. في المقابل، برزت لائحة “كفرحزير تستحق”، برئاسة جاك سيبا ووليد الخوري، أيضًا على قاعدة المداورة، لكنها مدعومة من “التيار الوطني الحر”، وجناح آخر من الحزب القومي، والنائب أديب عبد المسيح. وذلك في محاولة لتسجيل فوز سياسي مزدوج لـ”القوات” وقوميي سعادة، وخسارة معنوية للتيار الوطني الحر في بلدة كانت تُحسب له، وفي منطقة انقلب فيها المزاج المحلي لمصلحة تحالفات الأمر الواقع على حساب الاصطفافات الكلاسيكية.
القوات على ثغور أنفة
سجّلت بلدة أنفه نحو 2500 مقترع، وهي نسبة خجولة مقارنة بالدورة السابقة، لكنها كافية لتُظهر أن البلدية خرجت من عباءة التوافق الطائفي والعائلي، ودخلت نادي المواجهات السياسية المباشرة.
المعركة دارت بين لائحتين”أنفه أمانة” برئاسة جورج دعبول وحنا جريج، والمدعومة من النائب أديب عبد المسيح، و”بيتي بلديتي بلدي” التي يرأسها فؤاد وكيم وتحمل ختم”القوات اللبنانية”. ورغم الهدوء الظاهري في عمل المندوبين والداعمين، فإن المشهد السياسي كان محتدمًا. وسجل حضور لافت للقوات التي بدت مشدودة العصب في معركة مصيرية بمواجهة الجميع. وارتكزت على موقعها الشعبي في البلدة المشجّع على خوض المواجهة.
معركة بلدة دده كانت غير تقليدية بلائحة “دده القرار”، يرأسها هنري الزاخم وربيع الأيوبي، وتضم في صفوفها كلاً من “تيار المستقبل”، “المردة”، “القوات”، وعدد من العائلات. في المقابل، وقفت بوجهها لائحة “دده للتغيير” برئاسة حسين الأيوبي، مدعومة من التيار الوطني الحر، الحزب الشيوعي، الحزب السوري القومي الاجتماعي، والنائب أديب عبد المسيح.
بلغ عدد المقترعين نحو 2300 ناخب، توزّعوا بين حوالي 950 إلى 1000 مسيحي، ونحو 1350 ناخبًا من المسلمين، في توازن دقيق يعكس التركيبة السكانية للبلدة، ويؤكد أن الصوت الإسلامي كان عنصرًا حاسمًا في ترجيح الكفّة، رغم أن المعركة في ظاهرها بدت ذات طابع مسيحي.
أحد أقلام الاقتراع في دده تأخّر في الإقفال نحو ساعة ونصف، بسبب توافد مفاجئ لبعض النساء في اللحظات الأخيرة من الاقتراع. ووفق ما تردّد في الأوساط المحلية، فإن هؤلاء الناخبات تلقّين حوافز مالية تقدر بـ200 دولار مقابل تصويتهن.
المفارقة لا تكمن فقط في جمع “القوات” و”المردة” على طاولة انتخابية واحدة، بل في الحضور الكثيف لناخبي “تيار المستقبل”، رغم عزوف سعد الحريري وانكفائه السياسي والإعلامي. أما سياسياً فتستفيد “القوات” من هذا التحالف الهجين في إظهار صورة الرابح، في معركة تحمل دلالات أوسع عن التبدلات التي يشهدها الشارع السني في الشمال.