البرابرة يدمّرون الآثار في فلسطين ولبنان: «إسرائيل» عدوّ حضاري أولاً وأخيراً
غادة حداد - الاخبار
قبل يوم واحد من حرب تموز 2006، وقفت السيدة فيروز على أدراج بعلبك الرومانية الأثرية، لتحيي اليوبيل الذهبي لانطلاق «مهرجانات بعلبك الدولية»، مفتتحةً المهرجان بمسرحية «صح النوم» للأخوين الرحباني، بإشراف نجلها زياد الرحباني.
في اليوم الثاني، بدأت حرب تموز، وتوقفت العروض، واستمرّت الحرب 33 يوماً. لم تعد فيروز إلى بعلبك من يومها، لكن على هذه الأدراج، وقفت أم كلثوم، وإيلا فيتزجيرالد، ومايلز ديفيس، وشارل أزنافور، ووديع الصافي، وصباح وغيرهم.
بعد 18 عاماً على حرب تموز، يخرج المتحدث باسم «جيش» الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، ليأمر كلّ سكان بعلبك بمغادرتها، وينشر صوراً تشير باللون الأحمر إلى مكان الغارات المتوقع، والقلعة هي جزء منه. وقبل بعلبك، هدّد وقصف مدينة صور، والأسواق التاريخية في مدينة النبطية.
في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، ارتفعت أعمدة الدخان خلف معبد جوبيتر في بعلبك، بعدما قصفت إسرائيل بالقرب من الآثار القديمة، على بُعد حوالى 500 إلى 700 متر. أما التهديد الأخير، فكان أكثر وضوحاً لنية إسرائيل قصف الآثار، تمهيداً لتدميرها. بعلبك، مدينة فينيقية قديمة، مسكونة منذ 9000 عام قبل الميلاد، وتحتوي على أحد أكبر المجمعات الدينية في العالم القديم، المعترف به كموقع تراث عالمي لليونسكو. بنيت هذه الهياكل الضخمة على مدى قرنين، وتعكس مزيجاً من العمارة الرومانية الإمبراطورية وآثار تقاليد الفينيقيين.
ويعدّ المجمّع الضخم في بعلبك، وفقاً لليونسكو، من أروع الشهادات على العمارة الرومانية، إذ يحتوي على بعض أكبر المعابد الرومانية التي تم بناؤها، ويعد من أفضلها حفظاً. وقد أدرجت المدينة عام 1984 على موقع التراث العالمي لليونسكو، لأهميتها المعمارية والتاريخية والثقافية الكبيرة.
في لحظة غزت مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، صور لمدينة صور، لبحرها، وحاراتها، وكورنيشها. ورغم أن الحرب الإسرائيلية على لبنان، قد توسعت منذ شهر، كان لاستهداف صور وقع مختلف. هذه المدينة التي حافظت على تنوّع تناثر بفعل الانقسام الحاد في البلاد، جعل من قرار إسرائيل بتدميرها، كحالة انتقام جماعية وتاريخية من اللبنانيين.
أكثر ما يتغنى به اللبنانيون، هي أصولهم الفينيقية، وبعيداً من الكليشيهات، لهذه الجذور أساس لهوية لبنان الثقافية. في صور، خليط لحضارات مرت عليها، الفينيقية والرومانية إلى البيزنطية والفترات الإسلامية المبكرة. كانت صور، المدينة الفينيقية الرئيسية، منذ الألفية الثالثة، عرفت بتجارتها البحرية، ومنها صدرت الصبغة الأرجوانية، المستخرجة من أصداف الموريكس. ولصور رمزيتها الدينية، فهي تحتضن المعابد المخصصة للإله ملقرت، الذي انتشرت عبادته ووصلت إلى قرطاج، تاركةً إرثاً دينياً مستداماً.
في الحقبة الرومانية، تحوّلت صور إلى واحدة من أكبر المدن الإمبراطورية في بلاد الشام، ضمت مباني عامة فاخرة وبنية تحتية واسعة النطاق، ولا يزال الكثير منها قائماً حتى اليوم، من ميدان سباق الخيل الروماني، وقوس النصر الروماني، ونيكروبوليس، الذي يضم عدداً من التوابيت المزخرفة، التي تعكس مكانة سكانها الاجتماعية واندماج العادات الرومانية في الطقوس الجنائزية المحلية، ونظام قنوات واسعاً وحمامات عامة.
وفي الحقبة المسيحية، تحديداً البيزنطية، شُيّدت عدد من الكنائس، وكانت تعدّ المدينة موطناً لعدّة مدارس مسيحية مؤثرة وعلماء اللاهوت. ولاحقاً، في الفترة الإسلامية، بنيت المساجد والأسواق والبنية التحتية الحضرية الجديدة. استمر هذا التطور في الحقبة العثمانية، إذ شُيّدت المباني السكنية، والسوق التجاري، وهياكل عامة مجسدةً الطراز المعماري الإسلامي. في عام 1984، صنفت اليونيسكو مدينة صور، كموقع تراث عالمي، بهدف حمايتها من التوسع الحضري والآثار الناجمة عن الحروب.
وأصدر «المجلس الدولي للمعالم والمواقع» (ICOMOS) بياناً قال فيه إنّ المواقع التراثية في بعلبك وعنجر وجبيل ووادي قاديشا ومعرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس وغابة أرز الرب، معرّضة للخطر بفعل القصف الإسرائيلي. وذكر أنّه في 13 تشرين الأول (أكتوبر)، تم تدمير المسجد العثماني في بلدة «كفر تبنيت»، بالإضافة إلى الأسواق التاريخية في النبطية.
تدمير إسرائيل للمناطق الأثرية ليس بجديد، وهذا ما قامت به في غزة، بهدف محو التراث الثقافي الفلسطيني واللبناني، وإلغاء تاريخ الشعبين، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ، تبريراً لوجود كيان مصطنع في المنطقة. فالسردية الصهيونية تقول إنّ الدولة اليهودية وجدت قبل العرب في المنطقة، فيما التاريخ وآثاره، يظهران وجود أجدادنا ما قبل الدولة اليهودية الأولى، أي «مملكة إسرائيل»، التي نشأت في القرن العاشر قبل الميلاد بين عامَي 1050 و 930 قبل الميلاد، تحت حكم الملك شاؤول، ثم تلاه الملك داود، الذي أسس عاصمته في القدس، ثم الملك سليمان الذي يُنسب إليه بناء الهيكل الأول.
بعد وفاة سليمان، انقسمت لاحقاً إلى دولتين، «مملكة إسرائيل»، وعاصمتها السامرة (نابلس الحالية)، وضمت الجزء الشمالي من المملكة، ودُمّرت في عام 722 قبل الميلاد على يد الآشوريين، و«مملكة يهوذا» وعاصمتها القدس، واستمرت في الجزء الجنوبي حتى عام 586 قبل الميلاد، حين غزاها البابليون بقيادة نبوخذ نصر، وهدموا الهيكل وسبوا أهلها إلى بابل.
سردية أنّ هذه أرض اليهود، وموطنهم الأساسي، تنقضها الآثار لحضاراتٍ وشعوبٍ سابقة، من الكنعانيين، وهم أقدم شعوب المنطقة، وسكنوا المنطقة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وأسسوا مدناً ودويلات مزدهرة مثل أريحا وجبيل وصور وصيدا، ومن الفينيقيين الذين تركزوا في المناطق الساحلية (لبنان الحالي)، مثل صور وصيدا، ومن العموريين، وهم شعب سامٍ قديم استقر في بلاد الشام في الألفية الثانية قبل الميلاد، والمصريين القدماء، والحثيين، الذين أسسوا إمبراطورية في الأناضول (تركيا الحالية)، والآراميين الذين شكلوا دويلات مثل مملكة دمشق ومملكة حماة، والمؤابيين والعمونيين، وهم شعوب سامية استوطنت شرق نهر الأردن وأسّست ممالك صغيرة مثل مؤاب وعمون.
محاولة لإعادة كتابة التاريخ بهدف تبرير وجود كيان مصطنع في المنطقة
تدمير الآثار وثقافة الشعوب آلية اعتمدت عبر تاريخ الحروب والاحتلالات، للقضاء على الشعوب وإرثها، وبالتالي وجودها. ففي زمن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، دمرت مكتبة الإسكندرية القديمة، التي كانت تحتوي على عدد هائل من الكتب والمخطوطات التي وثقت العلوم والفنون والآداب. وفي الهند، دمّرت «نالاندا»، التي كانت تعدّ من أهم مراكز التعليم البوذي في العالم القديم، في القرن الثاني عشر، على يد القائد التركي بختيار خلجي الذي أحرق الجامعة ودمّر مكتبتها. وعام 1258، اجتاح المغول بقيادة هولاكو خان بغداد، فدمر مكتبة «بيت الحكمة»، التي كانت تضم أعمالاً مهمة في الفلسفة والعلوم، ورميت الكتب في نهر دجلة. وفي حرب البوسنة في التسعينيات، تعرضت المكتبة الوطنية في سراييفو للقصف، ما أدى إلى تدمير مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات القيمة، كما تضرّر عدد من المباني التاريخية والمساجد.
استهداف إسرائيل لآثار لبنان وفلسطين، يلغي حق الشعبين في تقرير المصير على مواردهما الثقافية، ما يهدد وجودهما كأمة، ويؤثر جذرياً في جوهر هويتهما. وهذا التدمير لا يقتصر على المعالم الأثرية، بل يضم الشوارع والعمارة والكنائس والجوامع والمساجد. وبعد إزالتها، لن يبقى دليل على أن هذه الأرض استوطنها سكانها الأصليون قبل الاحتلال، لتقول إسرائيل إنّ التاريخ بدأ معها وينتهي عندها.
على هذه الآثار، بنى اللبنانيون هويتهم، بكل تشعباتها وصراعاتها وانقساماتها. كانت الحياة الروتينية، من الصلاة المسلمة والمسيحية، إلى الرقص والغناء، في مدينة وشارع واحد، محطّ إعجاب واستهجان في آن. أما اليوم، فهي مهدّدة بالزوال بفعل آلة الموت الإسرائيلية.
الحزن على تدمير بعلبك وصور وسوق النبطية، هو حزن على حجر، لا يقل أهميةً من الحزن على البشر. فهذا الحجر بناه بشر تواجدوا على هذه الأرض، بنوها وورثوها لأجيالٍ، عاصرت شتى أنواع الاحتلالات. ولهذا الحجر مكانة في الذاكرة الجماعية اللبنانية، وله رمزيته، وحتى أصغر حجر في واد بعيد، له ثقل العالم إن كانت تريد إسرائيل إزالته. فهذا الحجر هو نحن، هويتنا ووجودنا وثباتنا في أرضنا. وتراث أجدادنا هو لنا، وتدميره يعني محو ذاكرتنا وأصولنا وعلّة وجودنا.